حزب التحرير ولاية الأردن

مقال: أزمة وجود: كيان يهود يفقد الغطاء الأخلاقي والشعبي.. وصرخة ترامب لإعادة الإدماج

مقال

أزمة وجود: كيان يهود يفقد الغطاء الأخلاقي والشعبي.. وصرخة ترامب لإعادة الإدماج

إن المشروع الغربي في منطقة العالم الإسلامي، المسمى “كيان يهود”، يعيش اليوم حالة سقوط عجيبة تلاحظها العين البصيرة ولا تحتاج إلى كثير عناء. هذا الكيان هو قاعدة الغرب الصليبي التي نشأت بعد أن أصدرت بريطانيا العظمى عام ١٩١٦ مشروع سايكس-بيكو وعام ١٩١٧ وعد بلفور لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. تحقق شقه الأول بعد سقوط الدولة العثمانية وغيابها عن المسرح الدولي عام ١٩٢٤، ثم تحقق الجزء الثاني عام ١٩٤٨ بقيام كيان يهود، الذي كان تاج مشروعهم ودرة صناعتهم وصياغتهم. هذا الكيان ابتلع فلسطين بأكملها والجولان وجبل الشيخ، وأصبح رأس الحربة الخطرة الذي تعتمد عليه القوى الكبرى، وتلوذ به القوى الإقليمية الصغرى، وتنصاع تبعاً وتتزاحم على باب محرابه كل الدول الإقليمية المسماة (بالعربية والإسلامية) لتوقيع الاتفاقيات بكافة أشكالها. لقد أصبح هذا الكيان اللاعب الرئيسي في تنفيذ سياسات الغرب الكافر الذي يمدّه بكافة سبل الحياة (من تكنولوجيا وتسليح وغذاء ودواء) لتكون له اليد العليا والطولى بلا منازع، بل إن أمريكا، الممسكة بكافة أوراق المشروع، أنشأت مفهوم “الديانة الإبراهيمية” وفرضتها فرضاً على المنطقة لتكون المظلة الفكرية التي تجمع كيان يهود وأتباع الديانات الأخرى. لكن حدث السابع من أكتوبر أو طوفان الأقصى قلب الموازين، وأسقط مقولة كيان يهود ذي الذراع الطويلة والقوة التي لا تُقهر، فقد بان عوارها وظهرت هشاشتها وزيف التفوق والقدرة التي يتباهى الغرب بها وينام مطمئناً لوجودها، فهي عينه وذراعه الطولى التي يبطش بها، وعلامات انهيار هذا المشروع وتحلله داخلياً وخارجياً واضحة؛ وهنا نفهم لماذا قال ترامب إن مهمته هي “إعادة إسرائيل إلى المجتمع الدولي”.

يعاني كيان يهود منذ سنوات من أزمات متراكمة انفجرت بقوة بعد حرب غزة، تشير إلى أنه يعيش أزمة بنيوية لا مجرد خلاف سياسي. يتجلى هذا الانهيار الداخلي في انقسام سياسي غير مسبوق، فالمجتمع منقسم بين كتلة نتنياهو اليمينية المتشددة والمعسكر المناهض له، وقد فقد نتنياهو جزءاً من شرعيته حتى داخل اليمين، بسبب اتهامات الفساد والحرب الطويلة في غزة. ويتعمق الانقسام ليشمل صراعاً اجتماعياً وثقافياً بين المتدينين المتشددين (الحريديم) والعلمانيين حول قضايا مصيرية كالتجنيد والضرائب، بالإضافة إلى صراع بين اليهود الشرقيين والغربيين، وصراع بين “إسرائيل الكبرى” للمستوطنين و”إسرائيل المدنية”. وقد وصل الأمر إلى حد تحذير قادة كبار، حيث صرح الرئيس (الإسرائيلي) إسحاق هرتسوغ علناً بأن “إسرائيل تعاني من تمزق داخلي خطير”، وهو اعتراف رسمي بأن الأزمة وجودية ومجتمعية.

على الصعيد العالمي، حدثت نقلة نوعية في صورة الكيان بعد الحرب في غزة، تمثلت في خسارة “الغطاء الأخلاقي”. فقد انهار الغطاء الشعبي الغربي، حيث شهدت الجامعات الأمريكية والأوروبية أوسع احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين منذ حرب فيتنام، وسحبت العديد من الجامعات استثماراتها من شركات مرتبطة بالاحتلال. ولأول مرة في التاريخ الأمريكي، أصبح جيل الشباب أقل تأييداً للكيان من أي جيل سابق. والأخطر من ذلك هو انهيار “الخطوط الحمراء القديمة”؛ فبعد أن كان النقد سابقاً يُقابل بتهمة معاداة السامية، أصبح هذا السلاح لا يمنع النقد، بل أصبح مثقفون وسياسيون يقولون علناً إن “انتقاد حكومة الكيان ليس معاداة للسامية”. لقد كان يُقال سابقاً إن من أراد أن يخسر مستقبله السياسي فليتكلم ضد (إسرائيل)، أما اليوم فإن الجزء الأول من هذه المقولة لم يعد صحيحاً، ولم يعد السياسي يفقد مستقبله تلقائياً إذا انتقد الكيان.

هذه العزلة السياسية هي السياق الحقيقي لكلام ترامب عن “إعادة الإدماج”. فالكيان يواجه خلافات غير مسبوقة مع الحلفاء الغربيين، بما في ذلك انتقادات متزايدة من أعضاء الكونغرس الأمريكي، وضغوط أوروبية غير معهودة تطالب بوقف السلاح أو ربطه بشروط. كما أن أزمة العلاقات مع الأمم المتحدة تتفاقم مع تزايد المطالبات بفتح تحقيقات بجرائم حرب. وحتى داخل الحزب الجمهوري الأمريكي نفسه، بدأ التململ يظهر، وهو ما لم يكن يحدث سابقاً، حيث كان الدعم للكيان “ثابتاً” لربع قرن. ولذلك جاء تصريح ترامب بأن “وظيفتي إعادة إسرائيل إلى المجتمع الدولي”؛ لأنه يدرك أن الكيان فقد الغطاء الأخلاقي، والغطاء الشعبي، والغطاء الدبلوماسي التقليدي، ووحدة مجتمعه الداخلي.

خلاصة القول، إن كيان يهود يواجه اليوم أكبر أزمة وجود منذ تأسيسه عام 1948، تتجلى في انقسام داخلي عميق وتآكل في الأسطورة المؤسسة، ويرافقه دولياً فقدان للدعم الشبابي، وتشكك في الرواية التقليدية، وتراجع في تأثير سلاح معاداة السامية، وعزلة متزايدة. كل ذلك يعطي صورة لهشاشة هذا المشروع، وانفضاض مولده، وهو ما يجعل المحللين يكتبون أن أغلب مشاكل العالم سببها هذا الكيان، ما يعني أنه يفقد أسباب حياته وبقائه شيئاً فشيئاً أمام إصرار الشارع الغربي المؤمن بأن حرب الإبادة لا تزال مستمرة.

 

كتبه للمكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية الأردن

أ. سالم عبد الله