الخلافة أحكام شرعية: قراءة في الثوابت وردٌّ على الافتراءات رداً على وزير الأوقاف الأردني الأسبق
بسم الله الرحمن الرحيم
الخلافة أحكام شرعية: قراءة في الثوابت وردٌّ على الافتراءات
رداً على وزير الأوقاف الأردني الأسبق
في مقابلته على “قناة المملكة”، تحدث وزير الأوقاف الأردني الأسبق حول “الخلافة” في برنامج (الحياة فقه)، وقد كانت الحلقة بعنوان (مفهوم الخلافة الإسلامية). وكانت الأسئلة تتركز حول مفهوم الخلافة: وهل هي شكل من أشكال الحكم الذي أبدعه البشر، أم هي نظام الحكم عند المسلمين حصراً ليس لهم أن يتعدوه أو يغيروه؟ ونظراً لما تضمنته أجوبة وزير الأوقاف الأسبق من مغالطات، فإننا في هذه العجالة التي يسمح بها المقام نبين ما يلي:
أولاً: إن كون الخلافة -بالمعنى الاصطلاحي الشرعي والتي هي شكل خاص من أشكال الحكم في مقابل الجمهورية والملكية- أمراً عليه الأدلة الشرعية الصحيحة الصريحة؛ بل إن لفظ “الخلافة” إذا أُطلق وتجرد من القرائن فإنه لا يُعنى به إلا ذلك الشكل الذي بدأ بُعيد وفاة النبي ﷺ وحتى نهاية الدولة العثمانية، ولذلك لم ينتطح كبشان في أن الخلافة مصطلح شرعي.
ثانياً: إن كون الشارع قد استخدمها بالمعنى اللغوي في بعض آيات القرآن الكريم، فإن ذلك لا ينفي أنها بقيت مصطلحاً شرعياً، وإذا أردنا صرفها عن المعنى الشرعي إلى المعنى اللغوي فإننا بحاجة إلى قرينة.
فالله حين يقول: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، فإنه لم يقصد المعنى الشرعي للخلافة وإنما قصد المعنى اللغوي. وحين يقول: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ)، فإنه لم يقصد بالصلاة هنا تلك التي تبدأ بالتكبير وتنتهي بالتسليم، وإنما قصد الدعاء. وحين قالت مريم عليها السلام: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَٰنِ صَوْمًا)، فإنها قطعاً لم تقصد الصوم بالمعنى الشرعي بدليل ما بينته الآيات بعد ذلك، وإنما قالت: (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا).
وهكذا نقول في كل مصطلح شرعي: فإنه إن أُطلق من القرائن فإن الذهن لا ينصرف عنه إلا للمعنى الشرعي، ولا يُعاد للمعنى اللغوي إلا بقرينة. والسؤال هنا: هل الخلافة إذا أُطلقت من القرائن يُفهم منها أنها الشكل الخاص من الحكم الذي أوجب الله على الأمة أن تعمل على إيجاده، أم أن الشارع قد ترك الأمة تختار أي شكل من أشكال الحكم؛ جمهورياً أو ملكياً أو إمبراطورياً؟
والجواب: أن الشارع أوجب على الأمة أن تتحاكم إلى الإسلام حصراً، وجعل التحاكم لغير الإسلام أو الحكم بغيره كفراً أو ظلماً أو فسقاً، وهذا التأصيل أكبر من أن تخطئه عين، وأعظم من أن نسنده بآية أو حديث؛ فالمسلمون لا يصح لهم أن يحكموا بغير الإسلام. وهذا ما تغافل عنه وزير الأوقاف الأسبق، ولا أدري كيف أجاز الوزير لنفسه أن ينسف ما أجمعت عليه الأمة حول مفهوم الخلافة؟ وكيف ضرب صفحاً عن الدستور الذي أوجب الشارع التحاكم إليه؟
بل إنه كان في مقابلته يتحدث عن الإسلام وأحكام الإسلام وكأنها إبداعات بشرية، قائلاً: “ما دام غير الإسلام يحقق العدل فلا بأس!”، ثم لم ينسَ أن يضرب المثل بالدساتير التي يظن أنها تحقق العدل بين الرعية على أساس المواطنة -كما يقول- واستدل على طريقة المدلسين بـ “وثيقة المدينة”، وزعم أن النبي ﷺ قد جعل أساس العلاقة بينه وبين اليهود في المدينة “المواطنة”، ولم يبين للمشاهد ما هو الدستور الذي طبقه النبي ﷺ في المدينة.
فلماذا أخفى وزير الأوقاف ما جاء في بنود الصحيفة: “وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله ﷺ”؟ والمعنى أن النبي وصل إلى المدينة المنورة حاكماً بالإسلام، وليس اليهود وغيرهم عنده إلا “أهل ذمة”، فاليد الطولى له، والدستور الذي يُطبق هو الإسلام. وليست العلاقة بينه وبين مكونات المجتمع -يا وزير الأوقاف- علاقة مواطنة، بل علاقة الحاكم بمن هم تحته من الرعية، ولكن وزير الأوقاف لم يرد أن يفرق بين ضرورة الحكم بالإسلام، وبين العقد الاجتماعي الذي يجعل المواطنة أساساً ويجعل الدستور توافقياً ما دام يحقق العدالة بزعمه.
ثالثاً: ولنعد الآن إلى لفظ الخلافة، ونبين أن الشارع استخدمها بالمعنى الاصطلاحي الشرعي، وبين أنها الشكل الخاص الذي طلبه الله من المسلمين؛ فقد روى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير -رضي الله عنه- قال: كنا جلوساً في المسجد فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال: يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله ﷺ في الأمراء؟ فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته. فجلس أبو ثعلبة، فقال حذيفة: قال رسول الله ﷺ: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت».
فالنبي ﷺ قد بين مراحل انتقال الحكم بعده، فبين أن أول ذلك الخلافة الراشدة، ثم الملك العاض، ثم الملك الجبري، ثم عاد إلى لفظ الخلافة. ولو أراد المعنى اللغوي للفظ لسمى كل ذلك ملكاً، أو لسمى كل الأنماط خلافة، فلما وجدناه يعدل عن الخلافة إلى الملك ثم يعود للخلافة، علمنا أنه يتحدث عن شكل خاص من أشكال الحكم، وأن أول ذلك الأمر هو “خلافة على منهاج النبوة” وأن نهاية ذلك “خلافة على منهاج النبوة”.
وفي هذا دليل على أن الخلافة غير الملك، وأنها هي نظام الحكم الشرعي الذي يستوفي كل الشروط الشرعية، ويؤيد هذا أيضاً الحديث الذي فيه: «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك». وأيضاً: «أول هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكاً ورحمة، ثم يكون إمارة ورحمة، ثم يتكادمون عليه تكادم الحمر، فعليكم بالجهاد، وإن أفضل جهادكم الرباط، وإن أفضل رباطكم عسقلان».
فالخلافة هي نظام الحكم عند المسلمين، وهذا من “ألف باء” الأحكام الشرعية، أما تسمية الخليفة بالإمام والسلطان والحاكم فهذا مما لا نتوقف عنده كثيراً؛ فإن الشارع قد استخدم كل ذلك للمنصب العام الذي تبايعه الأمة على الكتاب والسنة. فلا ينفع يا وزير الأوقاف أن تلبس على الناس، فنحن الآن في مرحلة الحكم الجبري الذي تعقبه خلافة على منهاج النبوة إن شاء الله.
كتبه للمكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية الأردن
أ.محمد تقي