حزب التحرير ولاية الأردن

مقال: خطاب الشارع للمسلمين بين التكليف والانتقائية

بسم الله الرحمن الرحيم

مقال: خطاب الشارع للمسلمين بين التكليف والانتقائية

 

إن معالم نهضة المسلمين وارتفاعهم تكمن في أن يكون تلقيهم لتكاليف الله عزوجل بإقبال وانشراح صدر، وأن يتخذوا من هذه التكاليف مهام يجب تنفيذها دون تهاون، وأن لا يجترحوا المعاذير للتحلل من تبعات هذه التكاليف، وأن لا يرضوا بإيقاع الحد الأدنى المطلوب من هذه التكاليف، وأن لا يبحثوا عن ما يوصلهم إلى النزول عن مرتبة العزيمة إلى مرتبة الرخص.

وعندما كان المسلمين على النحو الذي ذكرنا صنعت منهم التكاليف الشرعية أجيالاً سادت العالم وخلدها التاريخ، فكان منهم جيل الصحابة رضوان الله عليهم الذين يُعَدُّون من أهم معجزات النبي ﷺ، فقد كان تلقيهم لخطاب الشارع كتاباً أو سنة مثالاً يحتذى, من حيث المسارعة في الامتثال وعدم التردد في التنفيذ، واقتحام المشقات في سبيل ذلك، وعدم الالتفات إلى حسابات الربح والخسارة المادية، وكان من حالهم التنافس في تنفيذ أمر الله ورسوله ﷺ، وعدم البحث عن الرخص والمعاذير لتفادي إيقاع التكاليف الشرعية على وجهها، وعدم ملاحظة الواقع الذي يعوق إنفاذهم للأحكام الشرعية، فاستحقوا بذلك معية الله ورضوانه ونصرته وصدق فيهم قول الله عزوجل: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) وقوله: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا).

وإن هذا التعامل المنضبط مع شرع الله من ذلك الجيل العظيم، ليس خاصية من خصائصهم التي اختصوا بهم فلا يشاركهم فيها غيرهم، وإنما هو نتيجة صفاء إيمانهم وقوة فهمهم لخصائص هذا التشريع الذي لا يقبل الاختلاط بغيره من التشريعات، أو التعديل عليه أو الإنقاص منه تحت ضغط الواقع، كما أنهم فهموا أنه بعد الإيمان بالعقيدة فإن الموقف من التشريعات المنبثقة عنها يكون فقط التطبيق، ولا مجال للنقاش فيها، أو الجدال في صحتها، أو مقارنتها بحلول ومعالجات أخرى.

وبذلك استطاع الجيل الأول من المسلمين أن يصلوا مع رسول الله ﷺ بالدعوة الإسلامية إلى تحقيق ما جاءت هذه الدعوة من أجله، وهو التغيير الجذري، وتحقيق العبودية الخالصة لله عزوجل، التي تضمن المساواة بين البشر، والعدالة لهم، وتُوَفِّر لهم الكرامة، وقد تحملوا في سبيل ذلك ولاقوا من المشقات ما تندك تحته الجبال. فمنهم مصعب بن عمير رضي الله عنه الذي يروي رفيقه في الهجرة إلى الحبشة عامر بن ربيعة كيف رأى رجليه تقطران دماً من مشقة السفر، حيث كان رقيق البشرة، لم يعتد خشونة العيش مثل بقية رفاقه في رحلة الهجرة، ووصفه سعد بن أبي وقاص قائلاً: (كان مصعب بن عمير أنعم غلامٍ بمكة وأجوده حلة مع أبويه، ثم لقد رأيته جُهِد في الإسلام جهداً شديداً حتى لقد رأيت جلده يتحشف (أي يَيْبَس ويتقبض) كما يتحشف جلد الحية).

وقد تلقى ذلك الجيل خطابات الله عزوجل ورسوله ﷺ على أنها خطابات للجماعة وليست تكاليف لهم بوصفهم أفراداً بل بوصفهم جزءاً من مجموع لا تلغي الجماعة كيان الفرد منهم ولا ينفصل الفرد عن وصفه جزءاً من الجماعة، وفهموا أن تكاليف الإسلام كلها مرتبطٌ بالآخر، ومجموعها يصب في تحقيق الغاية العظمى من نزول الإسلام، وهي أن يعم نوره الأرض، ويتم تشكيل الحياة بحسبه، من خلال جماعة أمينة عليه تقوم على حراسته، وتجسده في دولة فريدة، لم يعهد العالم مثيلاً لها من قبل، فأنشأ هذا التلقي بين أفراد ذلك الجيل رابطة ألَّفت بينهم وجعلتهم كالجسد الواحد، يقدم أحدهم أخيه المسلم على نفسه.

فهذا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يُسْمِعُ قريشاً القرآن رغم أنه ليس من أهل مكة ولم تكن له منعة فيها وكادت روحه تزهق من شدة الأذى الذي لحق به جراء ذلك، وهذا خباب بن الأرت لم يكن يطفأ الجمر الذي كان يعذب به إلا ودق جلده، وهذا صهيب يهاجر ويترك ماله للكفار حتى يخلوا بينه وبين المدينة، وهذا النبي ﷺ يستنفر المسلمين بعد انتهاء وقعة أحد للتصدي لأبي سفيان فلم يتخلف منهم أحد رغم أنهم كانوا مثخنين بالجراح، وهاهم المسلمون يثبتون مع النبي ﷺ في غزوة الخندق حتى كان عاقبة هذا الابتلاء أن بشرهم النبي ﷺ بأنهم بعد ذلك بأنهم سوف يَغْزُون ولا يُغْزَون.

وهم رضوان الله عليهم في سبيل الاستجابة لأمر الله عزوجل تركوا كثيراً من متاع الدنيا وعانوا الفقر وشظف العيش، وكان نعيمهم في عبادة الله وتلاوة القرآن، والتنافس في الآخرة، وكان قدوتهم في ذلك قائدهم محمد ﷺ الذي كانت تمر الأشهر ولا توقد في بيوته النار وليس لأهله طعام إلا الماء والتمر.

كان هَمُّ ذلك الجيل أن يسيروا في الطريق الذي رسمه الله لهم، لا يشغلهم عن ذلك جدال، ولا نقاش ولا لوم، كانت بركتهم أنهم كثيرو العمل قليلو الكلام، عديمو الاعتراض، وكانوا بعيدون عن الاقتراح على صاحب الشرع، واللوم له، تجدهم يفقدون أقرب الناس إليهم، وهم في أشد الأوقات التي يمكن أن تمر على الإنسان وهو وقت الهزيمة، تحاصرهم الجراح، وتعلوهم الغبار، ومع ذلك يقولون مطمئنين: كل مصاب بعد رسول الله ﷺ جلل، راحتهم في سلامة الإسلام، ولو كانوا في أشقى ما يكون عليه الإنسان.

ولكن ومع الأسف فإن الضعف أخذ  يتسلل إلى جسد هذه الأمة، والوهن راح يدب في أوصالها، حتى أصحبت بعد هدم الخـلافة وتولي الكافر المستعمر لشؤونها بطريق مباشر أو عبر الحكام العملاء كما وصفها رسول الله ﷺ: “غثاء كثاء السيل”، فلم يعد المسلمون يرعون خطاب الله أسماعهم، وأصبحوا لا يتعاملون مع خطاب الله على أنه موجه إليهم، بل جعلوه أجزاء فما كان سهلاً يوافق القدرات التي حددوها لأنفسهم قاموا به، وأما التكاليف العظمى التي يتعلق بها وجود الإسلام، وعز المسلمين فأداروا لها ظهورهم، واعتبروها موجهة للقلة التي أصغت إليها، فقد هدمت الخـلافة وهي أعظم تكاليف الإسلام، وبها قوامه، فلم تهب الأمة لإعادتها، ولم تهدف نحورها في سبيل بقائها، بل تعاملت مع ذلك وكأنه حدث كغيره من الأحداث يمكن أن تمضي الحياة بعده، مع أن خطاب الشارع للمسلمين بالخـلافة التي تحكمهم وتبقيهم أمة واحدة دون الناس، وتمكنهم من عيش الإسلام واقعاً وطراز عيش، أعظم واجبات الدين، ويترتب على مخالفته إثم عظيم لا يرتفع حتى يتوب المسلمون إلى ربهم من هذا الذنب بجعل الخـلافة واقعاً مجسداً في دولة خليفتها هو أمير المؤمنين، وحتى يكون تلقيهم لهذا الخطاب كتلقي أصحاب رسول ﷺ الذي اشتغلوا بتنصيب خليفة عن فرض من أهم الفروض وأقدسها ألا وهو تجهيز الجسد الطاهر للنبي ﷺ والصلاة عليه ودفنه، وأما تلقيهم لخطاب الله لهم بالجهاد وهو ذروة سنام الإسلام، فتلقي صاحبات الخدور، وتلقي الأعمى والأعرج والمريض، فكم من مصيبة حلت بالمسلمين كان حكم الله فيها إعلان الجهاد، وكان الجهاد فيها فرض عين، ولم نر لا جهاداً ولا مجاهدين إلا أفراداً قلائل، لا تتحقق بهم الكفاية، فقد احتلت فلسطين وأحرق الأقصى، ويصل يهود الليل بالنهار لتهويده وهدمه، وحوصرت غزة وجُوِّع أهلها، وذبحوا، وجيوش المسلمين نائمة تنتظر الأمر من الحاكم المعين من الكافر المستعمر، وقد صمت آذانها عن سماع أمر الله لهم بالجهاد: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا)، ولم يتلقوا خطاب الله لهم بالجهاد تلقي حنظلة الذي لبى داعي الجهاد صبيحة عرسه، ولا نداء ابن أم مكتوم ذلك الأعمى الذي روى النسائي أنه كانت معه رايات سوداء في بعض مشاهد النبي ﷺ وروى أنس رضي الله عنه كما في سير أعلام النبلاء أن ابن أم مكتوم كان يوم القادسية معه راية سوداء وقاتل وكانت عليه درعٌ حصينة سابغة. شتان بين أولئك القوم الذين عذرهم الله ولم يعذروا أنفسهم، وبين أمتنا اليوم وليس لها عذر وتعيش وكأنها من أصحاب الأعذار.

ورغم أن خطاب الله موجه للمسلمين وللناس أجمعين؛ فإن المسلمين يتعاملون مع خطاب الله بانتقائية، فتجدهم يستجيبون لأمر الله بالحج والعمرة، ولكن إذا تعلق خطاب الشارع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتغيير على الحكام والدعوة إلى الإسلام، تجدهم ينظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد، مع أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب عظيم من واجبات الإسلام وقد عده الغزالي رحمه الله الركن السادس من أركان الإسلام، وعندما تلح عليهم بهذا الواجب تجدهم يقولون نحن نأخذ بأضعف الإيمان وهو التغيير بالقلب، مع أن التغيير بالقلب لا يجوز إلا بعد ظهور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظهوراً ملفتاً للنظر مؤثراً في الواقع، مؤذناً بالتغيير المنشود.

وإن خطاب الشارع للمسلمين يقتضي أن قضاياهم واحدة، وآلامهم واحدة، فهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منهم عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فما بال المسلمين اليوم رضوا بأن تحدد لهم الأنظمة التابعة للاستعمار وأن يحدد لهم الكفار قضاياهم فقضية فلسطين لأهل فلسطين، حتى وصلنا إلى أن قضية غزة لأهل غزة، وليس هذا من دين الله في شيء، فعندما يتعلق خطاب الشارع بقضية من قضايا الإسلام فإنه لا يجوز أن يمنع شيء من الاستجابة له، لا حدود ولا حراس تلك الحدود، قال ابن العربي المالكي في شأن واجب المسلمين في تحرير الأسرى: (إلا أن يكونوا أسرى مستضعفين، فإن الولاية معهم قائمة، والنصرة لهم واجبة بالبدن بأن لا يبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم، حتى لا يبقى لأحد درهم كذلك قال مالك وجميع العلماء).

أمة الإسلام: إننا لا نكون مسلمين بحق إلا إذا أخذنا هذا الدين بحقه، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)، وامتثلنا له بوصفنا جماعة لا أفراداً؛ لأن غاية الإسلام لا تتحقق إلا  من خلال الجماعة المكونة من أفراد مؤمنين، يتجسد فيهم الإسلام في عباداتهم وأخلاقهم ومعاملاتهم، وأن نسير في طريق الإسلام طريق الأنبياء عليهم السلام لا نهتم لمشقة، ولا نلتفت إلى مكسب من مكاسب الدنيا الفانية، قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).

أيها المسلمون: أيرضيكم أن يعلوا عليكم أخس خلق الله يهود، وأن يتحكم فيكم أفسد خلق الله الأمريكان، وأنتم أصحاب المبدأ الصحيح الذي هداكم الله إليه وضلت عنه الأمم، فما بينكم وبين أن تفارقوا الذل والهوان، وتعيشوا حياة العز والمنعة إلا أن تجعلوا هذا المبدأ قائداً لكم، لا تطيعوا غيره، ولا تسمعوا لسواه، وأن تعملوا مع العاملين لاستئناف الحياة الإسلامية من شباب حزب التحرير، تكفرون بذلك عن ذنوبكم وتفوزون برضا ربكم، وتغذون السير لإقامة الخـلافة التي أظل زمانها، (..وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)) (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) صدق الله العظيم.    

كتبه للمكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية الأردن

أ.مالك أنس