حزب التحرير ولاية الأردن

انهيار القانون الدولي… وخيبة العالم الذي يحتكم إليه، «النظام الدولي القائم على القواعد» مثيل أمريكي ماكر

د. أحمد حسونة

منذ تولّي الرئيس جو بايدن السلطة في الولايات المتحدة في كانون الثاني/يناير 2021م وهو لا يكاد يترك مناسبة إلا ويذكر فيها «النظام العالمي القائم على القواعد» – (rulesbasedinternationalorderخاصة المناسبات ذات الصلة بالصين وروسيا، أو الدول المصنَّفة لدى الولايات المتحدة بأنها دول راعية للإرهاب؛ حيث يتَّهم الرئيس بايدن وإدارته جميع هؤلاء بأنهم يسعون إلى تقويض النظام القائم على القواعد، وأن على الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها العمل معًا من أجل حماية هذا النظام، والوقوف بحزم في وجه القوى التي تهدِّد استقرار المجتمع الدولي وتعمل على تقويض «نظامه القائم على القواعد».

ويردد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن عبارات الرئيس بايدن ونهجه في جميع المناسبات واللقاءات الإقليمية أو الدولية، ويتحدَّث حول التحديات التي تواجه الدول الديمقراطية من الأنظمة الاستبدادية التي تعمل جاهدة على تقويض «النظام القائم على القواعد»، فما هو هذا النظام الدولي القائم على القواعد؟.

لا يوجد في مواثيق الهيئات والمنظمات الدولية التي تشكلت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومعاهداتها واتفاقياتها ما يُعرف بـ»النظام الدولي القائم على القواعد»، غير أن عبارات بلينكن التي قال فيها إن «النظام الدولي القائم على القواعد هو الذي جلب الاستقرار والتنمية العالميين على مدى 75 عامًا الماضية»؛ في محاولة لربط مسمى «النظام الدولي القائم على القواعد» بالنظام الذي تأسس بقيادة الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والذي عرف حينها بالنظام الدولي الليبرالي (LIO) الذي تقوم قواعده على أساس الليبرالية السياسية والاقتصادية والأممية الليبرالية، وتنظم علاقاته الدولية مجموعة مؤسسات دولية متعددة الأطراف، على رأسها الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية، ومجموعة مواثيق وعهود، مثل ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي والعهد الدولي لحقوق الإنسان، وتحكمه مجموعة مبادئ، كالديمقراطية والمساواة والحرية وسيادة القانون وحقوق الإنسان والتعاون الأمني والتعاون النقدي.

يقول أستاذ القانون الدولي جون دوغارد في جامعة لايدن في هولندا: «إن ‹النظام القائم على القواعد› هو شيء آخر غير القانون الدولي». إنه نظام بديل خارج نطاق القانون الدولي، يتحدَّى ويهدِّد، وعلى حد تعبير ستيفن إم والت، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، فإن الولايات المتحدة مستعدة دائمًا «لتجاهل القواعد أو التهرب منها أو إعادة صياغتها متى بدت غير ملائمة». وقال ألكسندر جوسيف، مدير المعهد الروسي للتخطيط والتنبؤ الاستراتيجي، إن الولايات المتحدة تتعمَّد إبقاء تعريف مصطلح «النظام الدولي القائم على القواعد» غامضًا؛ لأنه كلما كانت القواعد المزعومة أقل تحديدًا، زادت قدرة الولايات المتحدة على التلاعب بها في أي وقت تشاء. وقال دوغارد، الأستاذ في جامعة لايدن، إن «النظام الدولي الذي تأسس على ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي كما تطوَّر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية هو طريقة أصوب للسلام من النظام الدولي القائم على القواعد، غير المتبلور والتمييزي، الذي تدعو إليه الولايات المتحدة».

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أصبح من المسلَّم به على نطاق واسع أنه لا يوجد سوى نظام دولي واحد، هو النظام الدولي القائم على القانون الدولي، وأن هناك مجموعة واحدة فقط من القواعد، هي الأعراف الأساسية الحاكمة للعلاقات الدولية التي تستند إلى مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة. وفي هذه المعاهدات أو الوثائق التاريخية لا يوجد ذكر لما يسمى بالنظام «القائم على القواعد».

فهذا المصطلح بدأ يظهر في النصوص في أواخر ثمانينات القرن العشرين، وبدأ استخدامه في الفترة من أوائل إلى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ حيث كان استخدامه في تلك الفترة، جزئيًّا، ردًّا على غزو العراق عام 2003م، خاصة وأن الحرب تمَّت دون تفويض من الأمم المتحدة. فحرب العراق هي مثال كلاسيكي يوضح سبب اختراعالولايات المتحدة لمثل هذا المصطلح، في محاولة لإرباك المجتمع الدولي والتخلُّص من قيود القانون الدولي، فحكومة الولايات المتحدة لديها تقليد يتمثل في وضع قانونها المحلي فوق القانون الدولي، وتطبق القواعد الدولية بشكل انتقائي على النحو الذي تراه مناسبًا.

وقالتصحيفة ذي نيشنالعالمية إن «الحرب التي تشنُّها (إسرائيل) على غزة بمشاركة ودعم الولايات المتحدة تظهر الفرق بين القانون الدولي والنظام الدولي القائم على القواعد».

فالضوء الأخضر الذي أعطاه بايدن لكيان يهود يثير الشك في شرعية «النظام الدولي القائم على القواعد»، كما يوضِّح أيضًا ماذا يكون هذا النظام حقًّا، لوهلة يبدو أن «النظام الدولي القائم على القواعد» شبيه بـ»القانون الدولي»؛ لكنه في واقع الأمر بديل القانون الدولي مصحوبًا بامتيازات الهيمنة الأمريكية، وهو هنا ليس منافقًا، على وجه التحديد، حينما يعاقب روسيا على أفعال يدعمها ماديًّا، وعندما يقوم بها كيان يهود، إنما هو يمارس الاستثنائية.

وللتوضيح أكثر، يتعامل كثيرون داخل حكومة الولايات المتحدة وخارجها في أغلب الحالات مع مصطلح «النظام الدولي القائم على القواعد» باعتباره مرادفًا للقانون الدولي. ولا يجد أنصار النظام الدولي القائم على القواعد غضاضة باستخدام القانون الدولي أو الإشادة به عندما يخدم الولايات المتحدة، كما في حالة سعي المحكمة الجنائية الدولية إلى اعتقال فلاديمير بوتين بسبب جرائم الحرب التي ارتكبها في أوكرانيا؛ ولكن الولايات المتحدة لن تقدِّم نفسها أبدًا إلى المحكمة الجنائية الدولية، ففي ظل حكم الرئيس جورج دبليو بوش، ألغت الولايات المتحدة توقيعها من المعاهدة المؤسِّسة للمحكمة، وفي ظل حكم الرئيس دونالد ترامب، فرضت عقوبات على عائلات المدَّعين العامين للمحكمة الجنائية الدولية الذين فتحوا تحقيقًا في جرائم الحرب التي شهدتها الحرب الأمريكية في أفغانستان، وهكذا إذًا هي طريقة عمل النظام الدولي القائم على القواعد، فهو لا يحل محل آليات القانون الدولي، وإنما يضع علامات إيضاحية بجانبها، فقد تكون القواعد ملزمة لخصوم الولايات المتحدة؛ ولكن الولايات المتحدة وعملاءها بوسعهم الانسحاب منها.

وفي أحدث تطور مشابه، طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بإصدار أوامر اعتقالضد بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، يقول أستاذ القانون الدولي لحقوق الإنسان في جامعة سواس في لندن، البروفيسور لوتز أوتي لصحيفة الغارديان بتاريخ 24/5/2024م: «أوامر الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بمثابة خطوة مناهضة للاستعمار». ويوضِّح الكاتب أن الولايات المتحدة عادت في رد فعلها، «إلى النمط الإمبراطوري»؛ فبعد أن رحبت بقرار المحكمة الجنائية الدولية في آذار/مارس 2023م بإصدار مذكرة اعتقال ضد فلاديمير بوتين بتهمة ارتكاب جرائم دولية، وصفت الآن طلب المحكمة الجنائية الدولية بأنه «شائن»؛ إذ «كان رد فعل الولايات المتحدة يتسم بالعداء المعتاد عندما لم تتناسب تصرفات المحكمة الجنائية الدولية مع مصالحها». ويختم البروفيسور بالقول إنه «في الأعراف والعلاقات الدولية والقانون الدولي، اشتهرت الحضارة مجازًا بتاريخ طويل في تبرير الهيمنة واستخدام العنف لترسيخها والحفاظ عليها، وقد حان الوقت لكي تتوقف هذه العقليات الإمبريالية والاستعمارية».

والآن يرى العالم كيان يهود إذ يبيد غزة بالأسلحة والدعم الدبلوماسي من أمريكا. ومن خلال القيام بذلك، يكشف بايدن ونتنياهو حقيقة النظام الدولي القائم على القواعد: فما هو بعالم الحرية في ظل القانون وإنما هو مقبرة جماعية.

كيف نشأ مفهوم «النظام الدولي القائم على القواعد»؟

وُلد مفهوم «النظام الدولي القائم على القواعد»، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وظن الولايات المتحدة أن العالم أحادي القطب سيدوم إلى الأبد وأنه يمكن لها أن تتجاهل مصالح الدول الأخرى وآراءهم. وقامت مجموعة من الباحثين الأمريكيين والمسؤولين بتقديم ورقة بحثية في جامعة برينستون عام 2006م بعنوان «عالم من الحرية في ظل القانون»، صاغوه كردة فعل على نقاط الضعف في القانون الدولي متذرعين بأنه في حال فشل المؤسسات الدولية في تحقيق النتائج التي يفضلها «عالم الحرية»، فإن هناك «منتدى بديلًا للديمقراطيات الليبرالية للسماح بالعمل الجماعي»، وعمليًا كان هذا المنتدى في أغلب الأحيان هو البيت الأبيض.

فخلال الأزمة الليبية عام 2011م، استخدمت الولايات المتحدة وحلفاؤها تفويض مجلس الأمن بفرض منطقة حظر جوي للإطاحة بمعمر القذافي، كما تعمل القوات الأمريكية الآن في شرق سوريا منذ أكثر من ثماني سنوات – بدون أي مبرر في القانون الدولي لوجودها.

إن «النظام القائم على القواعد» تستخدمه الولايات المتحدة وحلفاؤها للتنصل من المسؤولية ويقوِّض بشكل أساسي مفهوم القانون الدولي. ويستخدم صناع القرار السياسي في الولايات المتحدة هذه النظرية لترسيخ المزايا التي تتمتع بها الولايات المتحدة باعتبارها قوة عالمية، وعندما تتطابق صلاحيات وقواعد القانون الدولي مع القواعد التي يضعونها، فإن واشنطن تعتبرها مترادفة، فبعد شن روسيا الحرب على أوكرانيا في شباط 2022م، حذّر الوزير بلينكن من الخطر على «أسس ميثاق الأمم المتحدة والنظام الدولي القائم على القواعد الذي يحفظ الاستقرار في جميع أنحاء العالم»؛ ولكن عندما تحيد صلاحيات الولايات المتحدة عن القانون الدولي، فإن مفهوم «النظام القائم على القواعد» يدخل حيز التنفيذ.

لقد أوضحت الحرب على غزة مفهوم «النظام القائم على القواعد»: ففي 25 آذار/مارس 2024م، اعتمد 14 عضوًا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قرارًا يطالب بوقف فوري للحرب في غزة، مع امتناع الولايات المتحدة عن التصويت، وأصبح القرار وثيقة قابلة للتنفيذ من الناحية القانونية، وبعد وقت قصير من التصويت، وصف متحدث باسم إدارة بايدن القرار رقم 2728 بأنه «غير ملزم»، في محاولة واضحة لإنكار مكانته كقانون دولي. من الواضح أن القانون الدولي يعارض ما يفعله كيان يهود في غزة، وبعد إقرار مشروع القانون رقم 2728، أوصت المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيز، الدول الأعضاء بفرض حظر على الأسلحة «على الفور» على كيان يهود لعدم امتثاله للتدابير الإلزامية التي أمرت بها محكمة العدل الدولية. وبعد إقرار القرار المذكور أعلاه، أوضح المتحدث باسم الأمن القومي في البيت الأبيض، جون كيربي، أن شحنات ومبيعات الأسلحة الأمريكية إلى كيان يهود لن تتأثر، في حين ذكرت وزارة الخارجية، وأكد البيت الأبيض لاحقًا، أنه «لا توجد حوادث من قبل (الإسرائيليين) تنتهك القانون الإنساني الدولي».

وفي هذا الصدد، خلصت صحيفة نيويورك تايمز في 10 نيسان/أبريل من هذا العام إلى أن «القرار رقم 2728، الذي صدر دون نتيجة، قد يتم تذكره باعتباره لحظة فاصلة في تراجع «النظام الدولي القائم على القواعد» – أي العالم الذي تسعى الولايات المتحدة إلى بنائه والحفاظ عليه. إن غزة بمثابة تذكير مروِّع بأنه في عالم يتسم بالاستثناءات للقانون الدولي، فإن الأقل قوة هو الذي يعاني أكثر من غيره. كل هذه التطورات وصفها بدقة مندوب الصين الدائم لدى الأمم المتحدة، الذي وصف التصريحات والتصرفات الأمريكية بأنها تتعارض مع وضع العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي، وقال إن واشنطن تقوض سلطة مجلس الأمن.

نظام «القواعد» الأمريكي أداة للهيمنة على العالم

لعلَّ الورقة البحثيةالتي قدمها البروفيسور المتخصص في القانون الدولي وقانون حقوق الإنسان جون دوغارد من جنوب أفريقيا التي نشرتها جامعة كامبريدج، تلقي الضوء على تفاصيل ما يسمى بالقانون الدولي و»النظام الدولي القائم على القواعد»:

في 2 حزيران/يونيو 2022م، نشر الرئيس بايدن مقالة افتتاحية في صحيفة نيويورك تايمز بعنوان: «كيف ترغب الولايات المتحدة في مساعدة أوكرانيا»، أعلن فيها أن تصرفات روسيا في أوكرانيا «يمكن أن تمثل نهاية النظام الدولي القائم على القواعد وفتح الباب للعدوان في أماكن أخرى، مع عواقب كارثية في جميع أنحاء العالم». ولم يأتِ على ذكر للقانون الدولي.

وفي وقت لاحق، في مؤتمر صحفي في ختام اجتماع قمة الناتو في حزيران/يونيو 2022م في مدريد، حذَّر كلًّا من روسيا والصين من أن الديمقراطيات في العالم سوف «تدافع عن النظام القائم على القواعد». ولم يذكر القانون الدولي أيضًا. وفي 12 تشرين الأول/أكتوبر 2022م، نشر الرئيس الأمريكي استراتيجية الأمن القومي التي تشير بشكل متكرر إلى «النظام الدولي القائم على القواعد» باعتبارها «أساس السلام والازدهار العالميين».

وتساءل البروفيسور جون دوغارد: «ما هو هذا المخلوق المسمّى «النظام الدولي القائم على القواعد»، الذي استشهد به القادة السياسيون الأمريكيون بشكل متزايد منذ نهاية الحرب الباردة بدلًا من «القانون الدولي»؟ هل هو مرادف للقانون الدولي كما اقترحه الزعماء الأوروبيون؟ أم أنه شيء آخر؟»

وحدَّد دوغارد، في مقاله الذي نشرته جامعة كامبريدج، أسباب تفضيل الولايات المتحدة الاحتكام إلى «نظام دولي قائم على القواعد» بدل الالتزام بتعريف «القانون الدولي»، كما يلي:

أولًا:الولايات المتحدة ليست طرفًا في عدد من المعاهدات المتعددة الأطراف المهمة التي تشكل سمة أساسية للقانون الدولي، وهي ليست طرفًا في اتفاقية قانون البحار، ما يعني أنها مضطرة إلى توبيخ الصين لتهديدها «النظام الدولي القائم على القواعد» في بحر الصين الجنوبي بدلًا من القانون الدولي. وهي ليست طرفًا في عدد من الاتفاقيات: المعاهدات الأساسية التي تحكم القانون الإنساني الدولي بما في ذلك بروتوكولات عام 1977م الملحقة باتفاقيات جنيف بشأن قوانين الحرب، ونظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، واتفاقية الذخائر العنقودية، واتفاقية حظر الألغام المضادة للأفراد. كما أنها ليست طرفًا في اتفاقية حقوق الطفل أو اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة. إلى الحد الذي لا تَعتبر فيه الولايات المتحدة هذه القواعد جزءًا من القانون الدولي العرفي.

ثانيًا: وضعت الولايات المتحدة تفسيرات للقانون الدولي تبرر استخدام القوة وانتهاك القانون الإنساني الدولي، فتفسيرها لحق الدفاع عن النفس للسماح بضربات استباقية واستخدام القوة ضد ما يسمى بالإرهابيين هو أمر محل خلاف واسع، واللجوء إلى استخدام القوة كنوع من التدخل الإنساني كما في قصف بلغراد عام 1999م تحت رعاية حلف شمال الأطلسي، فهي محل خلاف أيضًا. وتعرضت التفسيرات التي وضعتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لقرارات مجلس الأمن للسماح باستخدام القوة في العراق عام 2003م، وفي ليبيا عام 2011م، لانتقادات كثيرة باعتبارها ذرائع غير قانونية لتغيير النظام، وكان حرمان جنود طالبان المحتجزين في خليج غوانتنامو من حقوق أسرى الحرب في أعقاب الغزو الأمريكي لأفغانستان عام 2002م موضع تساؤل لانتهاكه المادة 4 من الاتفاقية المتعلقة بمعاملة أسرى الحرب، كما أن استخدام الطائرات من دون طيار في أفغانستان والعراق واليمن لقتل المسلّحين/(الإرهابيين) المعادين، وهو ما بررته الولايات المتحدة باعتباره دفاعًا مسموحًا به عن النفس، تم انتقاده باعتباره انتهاكًا للقانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان.

ثالثًا: لا ترغب الولايات المتحدة في تحميل بعض الدول الحليفة، مثل كيان يهود، المسؤولية عن انتهاكات القانون الدولي. ويتم التعامل معها باعتبارها حالة استثنائية تتيح تحقيق المصلحة من دون مساءلة. وقد أوضحت الولايات المتحدة هذه الاستثنائية في إعلانها المشترك مع كيان يهود في مناسبة زيارة الرئيس بايدن لكيان يهود في تموز 2022م، ويفسر هذا الالتزام رفض الولايات المتحدة المستمر لمحاسبة كيان يهود على انتهاكاته المتكررة للقانون الإنساني، ورفض محاكمته أمام المحكمة الجنائية الدولية، ومنع إدانة هجماته على غزة.

رابعًا: الجدل القانوني بين روسيا والصين والغرب حول «النظام الدولي القائم على القواعد»، فقد استخدم الغرب هذا النظام القائم على القواعد للحكم على روسيا، ومؤخرًا الصين، إذ تدين روسيا الغرب لتخليه عن احترام القانون الدولي في تأكيده على النظام الدولي القائم على القواعد، بينما تتمسك الولايات المتحدة بتقييمها لسوء سلوك روسيا على أساس هذا النظام، من ناحية أخرى قال وزير خارجية الصين وانغ يي في أيار 2021م في مجلس الأمن: يجب أن تستند القواعد الدولية إلى القانون الدولي، ويجب أن تكون مكتوبة من قبل الجميع. فهي ليست براءة اختراع أو امتياز لعدد قليل. ويجب أن تنطبق على جميع البلدان.

خامسًا: القواعد التي يقوم عليها «النظام الدولي القائم على القواعد».

إن النظام الدولي القائم على القواعد هو شيء آخر غير القانون الدولي، إنه نظام بديل خارج نطاق القانون الدولي ويتحدى ويهدد القانون الدولي حتمًا، ولا يزال يتعيَّن توضيح القواعد التي يتألَّف منها «النظام الدولي القائم على القواعد»، وقد يُنظر إليه على أنه نظام منافس تدعمه بعض الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، التي تسعى إلى فرض تفسير للقانون الدولي يخدم مصالح الغرب على أفضل وجه، ولا سيما مصالح الولايات المتحدة.

وحول هذه المقدمات وجدلية آراء السياسيين والقانونيين حول ما يسمى بالقانون الدولي وما طرأ عليه من تطوير وخروقات تحت مسمى النظام الدولي القائم على القواعد يتضح ما يلي:

إن كلًّا مما يسمى بالقانون الدولي أو النظام الدولي القائم على القواعد وتفرعاته الدولية والعالمية ما هو إلا أفكار خاطئة، ومظاهر خادعة، وأساليب استعمارية للهيمنة على الدول المنافسة والسيطرة ونهب الدول النامية والدول الضعيفة والعميلة التي تدين بالتبعية لدول الغرب المستعمر الكافر، وخصوصًا في بلاد المسلمين.

حيث يدَّعى أن النظام العالمي نشأ من هزيمة ألمانيا في عام 1945م، فقد كان ذلك بمثابة ولادة ميتة، فقد أنقذ الحلفاء مجرمي الحرب التابعين لهم، بما في ذلك أولئك الذين قصفوا المدن في أوروبا واليابان، وارتكبوا مذبحة جماعية للمدنيين، عندما طرد الحلفاء، في أعقاب الحرب مباشرة، أكثر من 12 مليون مدني ألماني من منازلهم وأعادوا توطينهم قسرًا، ومات منهم نصف مليون ولم يعاقب أحد.

إن هيئة الأمم المتحدة وليدة عصبة الأمم – التي رخصت أو أباحت الاستعمار البريطاني والفرنسي في الشرق الأوسط – حتى عندما كان من المفترض أن يكون المبدأ التوجيهي للعصبة هو تقرير مصير الأمم، وهو ما تعاني منه بلاد المسلمين من التمزُّق والتشرذم حتى هذا اليوم.

تستمر اليوم ما تسمى بالقواعد في خدمة الغرض نفسه الذي كانت تستخدمه دائمًا: تبرير الهيمنات الاستعمارية للدول القوية. فالنظام الدولي القائم على القواعد ما هو إلا تعبير عن سياسات القوة والهيمنة الأمريكية وحلفائها، وأن أمريكا نفسها ليست ملزمة دائمًا بهذه القواعد. إن رغبات الأقوياء التي قد تحل محل القواعد أصبحت الآن في حد ذاتها نوعًا من القاعدة، طالما تم التعبير عن تلك الرغبات بمصطلحات إنسانية.

يتعرض الناس في كل مكان للسخرية والخداع من القادة الذين يتنافسون في انتهاك القواعد والقوانين الدولية، بدلًا من الاعتراف بأن هذه القواعد كانت دائمًا اختيارية بالنسبة لأولئك الذين يملكون ما يكفي من القوة المهيمنة والأسلحة الفتَّاكة.

إن المستقبل في ظل القوانين الدولية الحالية، أيًّا كانت الأسس القائمة عليها مع هيمنة وسيطرة الدولة الأولى على الموقف الدولي، وصعود القوى متعددة الأقطاب المنافسة، وفي ظل سواد النظام الرأسمالي النفعي على العالم، لن يسوده إلا المزيد من الظلم والحروب بين الدول المتنافسة وانتهاكات الدول الضعيفة.

من المؤكد أن الإدارة الأمريكية تهدف من وراء تكرار الحديث عن «النظام الدولي القائم على القواعد» إلى جملة من الأهداف، أهمها: إيجاد ذريعة دولية كبرى تحشد تحت رايتها الحلفاء والشركاء في صراعها الاستباقي ضد روسيا والصين، باعتبارهما تعملان على تقويض النظام الدولي المعيب في أساسه، وتسعيان إلى زعزعة الاستقرار العالمي، وتأكيد إذعان جميع دول العالم التي ستدخل في التحالف الدولي إذا تحتَّمت مواجهات قادمة، وإعادة تطوير النظام الدولي الحالي أحادي القطبية، الذي يضمن الزعامة الأمريكية، والسيادة الكاملة للمبادئ والقيم الغربية الراهنة.

إن الإمعان في مفهوم وقواعد القانون الدولي ونتائجه منذ فرضه على العالم عبر الأمم المتحدة وتفرعاتها يري أنه معيب فاسد وظالم بحد ذاته، من حيث إن القانون هو أحكام معيارية يقوم الحاكم على تنفيذه، فأين هذا الحاكم الدولي الخيالي الافتراضي، إلا إذا اعتبرناه صاحب القوة والنفوذ الأول في التأثير الدولي، فيقوم حتمًا بتنفيذ القانون حسب مصالحه، فتنتفي من وراء ذلك صفة القانون، وينتفي معه وجود جهاز لإنفاذه. فعلى الصعيد الدولي هذا مستحيل لأن الدول الكبرى في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لن يدافعوا عن الحق وبنود القانون فيما يتعارض مع مصالحهم ومصالح الدول الحليفة معهم، فيما إذا شكل القانون تهديدًا لمصالحهم، وهو أحد الأسباب التي تنتهج فيه الولايات المتحدة شيئًا آخر غير القانون الدولي عندما تحتاج وتسميه بالنظام الدولي القائم على القواعد.

ونظرة فاحصة توصلنا إلى أن العالم يعيش في شقاء دائم منذ ساد وهم الجماعة الدولية والقانون الدولي، فالعلاقات بين الدول تنظمها اتفاقيات فيما بينها وليس قانونًا يفرض عليها تنتهزه الدول الاستعمارية الغربية لتحقيق مصالحها، فالناس اليوم بحاجة ماسة لنظام عالمي جديد يسبغ عليها العدل والرحمة بما يتوافق مع الفطرة الإنسانية فيعيد للبشرية صلتها الروحية بخالقها وبالشريعة التي تُخرج الناس من ظلمات الرأسمالية وجور قوانين الطاغوت إلى نور ورحمة الإسلام.

فليس في الإسلام ما يسمى بالقانون الدولي، ولن تكون دولة الخلافة عضوًا ولا مشاركًا في أي من هذه المنظمات الدولية القائمة على ما يسمى بالقواعد الدولية، فكيف يكون هناك قانون ليس له صفة الإلزام ولا قوة تنفذ أحكامه؟ بل كيف يكون هناك قانون دولي وهو مناقض لعقيدة الإسلام وأحكامه جملة وتفصيلًا؟ فمن واجبات الدولة الإسلامية نشر رسالة الإسلام المناقضة لمفاهيم فصل الدين عن الحياة تحت مظلة الديمقراطية التي تجعل التشريع بيد البشر ومفاهيم الحرية التي تناقض التقيد بأحكام الشرع. فالقانون الدولي ضد مصلحة الدعوة الإسلامية وانتشارها، وبالتالي ضد مصلحة شعوب الكرة الأرضية، فلم ينشأ القانون الدولي إلا للحيلولة دون قيام دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة وعلى أساس العقيدة الإسلامية والنظام الإسلامي الذي ينبثق عنها.

وعليه فإن التحاكم إلى الأمم المتحدة والقانون الدولي والقوانين الدولية الأخرى هو تحاكم إلى الطاغوت؛ لأن الطاغوت هو كل شرع غير شرع الله، علاوة على أنه لا يحقق للمسلمين غاية ولا مصلحة. فدعوات حكام التبعية ولجوؤهم إلى القانون الدولي أو الشرعية الدولية في حل قضاياهم، من مثل حل الدولتين لقضية فلسطين، ومن مثل مخاطباتهم للمنظمات القائمة على ما يسمى بالقانون الدولي لوقف الإبادة الجماعية والحرب على غزة، ما هو إلا إذعان للغرب المستعمر، وتخاذلهم عن الحل العملي، وهو الدخول في ما يحقق تحرير بلاد المسلمين وعلى رأسها فلسطين بالقوة العسكرية.

 فلا ينخدع المسلمون ولا يفرحوا بقرارات لا تستحق الحبر الذي كتبت فيه والصادرة عن محكمة العدل العليا بوقف محدود للحرب على غزة، ولا إصدار مذكرة اعتقال صادرة عن المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، بحق زعماء يهود، فقد أتبعتها الولايات المتحدة بالرفض وأنها غير ملزمة، فلا يلاحق القانون الدولي إلا ساذج أو متخاذل خائن لدينه وأمته، فلم تنتشر فتوحات الإسلام وإخراج الناس من الظلمات إلى النور بقوانين دولية، وإنما بالجهاد والدعوة التي تنفذها الدولة الإسلامية – الكيان التنفيذي المعتبر – لفرض أحكام الإسلام، التي لا تساوم أعداءها على شبر من أراضي المسلمين، ولا سيادة فيها إلا للشرع وأوامر الله سبحانه وتعالى.

(أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيۡكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوٓاْ إِلَى ٱلطَّٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوٓاْ أَن يَكۡفُرُواْ بِهِۦۖ وَيُرِيدُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَن يُضِلَّهُمۡ ضَلَٰلَۢا بَعِيدٗا ٦٠).

 

الوعي: العدد 458-459

السنة التاسعة والثلاثون، ربيع الأول – ربيع الآخر 1446هـ الموافق تشرين الأول – تشرين الثاني 2024م