حزب التحرير ولاية الأردن

ما بين الملف الطبي المتعثر وسوء الوضع الاقتصادي في الأردن

بقلم: د. خالد الحكيم لقراءة المقال على موقع جريدة الراية: https://2u.pw/fkQuPrZ4

نشرت الجريدة الرسمية الأردنية الثلاثاء 15/10/2024، لائحة تعرفة الأجور الطبية الجديدة لعام 2024، وتبع نشرها جدل واسع واتهامات متبادلة بين الأوساط المعنية بالرعاية الصحية الطبية، مثل نقابة الأطباء الأردنية وشركات التأمين الصحي، والقطاع الطبي الخاص والإعلام الرسمي والمنصات الإلكترونية وغيرها من المؤسسات، بينما لاذت الحكومة الأردنية بالصمت ومشاهدة الجدل من جراء موافقة وزارة الصحة على لائحة الأجور الجديدة وكأن الأمر لا يعنيها وليست هي صاحبة الولاية على هذا الشأن الطبي، وما يحدثه من أثر بالغ على المرضى وخاصة الفقراء منهم في ظل تدني الرواتب والأجور وغلاء المعيشة.

فالرعاية الصحية والطبية في الأردن تقدمها جهات متعددة تسمح الحكومة بمشاركتها لتغطي على قصور مسؤوليتها في رعايتها الطبية للناس، وتشمل هذه الجهات، علاوة على وزارة الصحة ومستشفياتها، الخدمات الطبية العسكرية ومستشفيات الجامعات، وكذلك عيادات الأطباء والمستشفيات الخاصة أو ما يسمى بالقطاع الخاص، وقطاع المنظمات الدولية وتغطي خدمات القطاع الخاص حوالي ثلث السكان، ويتقاضى أجوره إما مباشرة من المرضى أو عن طريق شركات التأمين، كما يقوم جزئيا بتغطية مرضى التأمين الصحي الحكومي كغطاء العجز في تقديم الخدمة الطبية كما ونوعاً.

والقطاع الخاص هو المعني بلائحة الأجور الجديدة عموما التي ارتفعت بنسبة 60% على مدى ثلاثة أعوام أي بنسبة 20% لكل عام، حيث تقول نقابة الأطباء إن لائحة أجور عام 2008 التي تتعامل بمقتضاها مضى عليها أكثر من 15 عاما ولا تنصف أجور الأطباء حيث ارتفعت نسبة التضخم حوالي 60%، بينما ارتفعت أقساط شركات التأمين في الفترة ما بعد 2008 بمثل هذه النسبة وتتغول على الأطباء بالعقود المجحفة بحقهم، وترفض شركات التأمين هذه اللائحة وتهدد باللجوء للقضاء، أما الإعلام الرسمي الحكومي فيضرب على وتر الحقوق الإنسانية، عندما يتساءل عن مصير الإنسان الضحية من جراء رفع الأجور، في محاولة مفضوحة لرفع اللوم والمسؤولية عن دور وفشل حكومة النظام في توفير الرعاية الصحية لرعاياها، رغم الضرائب الباهظة المباشرة وغير المباشرة التي تتقاضاها من جيوب الناس.

وأساس مشكلة الرعاية الصحية وانحدارها للحضيض كل عام، وتكرار الحديث حول ترهلها منذ عقود وما نتج عنها من سوء الخدمات الصحية والرعاية الطبية، هو نفس سبب الأزمة الاقتصادية التي تتجه نحو الهاوية، وهو أن النظام في الأردن يطبق السياسة الرأسمـ الية في الرعاية الطبية من خلال النظام الاقتصادي الرأسمالي، ونظرته المادية في الرعاية، حيث إنه غير معني بتوفير الرعاية لكل رعاياه للخدمات الطبية المناسبة.

أما التأمين الصحي فهو أحد ترقيعات النظام الرأسمالي وهو وسيلة لتغطية تكاليف الرعاية الصحية، علاوة على عدم جوازه شرعاً، وهو قائم على الضرائب، أو عن طريق شركات التأمين الصحي ذات الربحية العالية، الذي ابتدعته الدولة في النظام الرأسمالي حيث إنها غير ملزمة برعاية شؤون الناس لترقيع تقصيرها عن مسؤوليتها في كفاية الأمة، فهي وسيط ليس له لزوم إلا بزيادة نفقات الفاتورة العلاجية على المرضى، تشارك الدولة في قانونيته كرافد وهمي للاقتصاد.

ومن ملامح فساد سياسة الرعاية الصحية في الأردن وغيره من البلاد الإسلامية، تدني أجور الأطباء وتدني مستوى الخدمة الطبية في القطاع العام، واستغلال حاجة الأطباء للعمل والتدريب والتعليم المستمر ومساومته على أجوره، وهي متباينة بنسب كبيرة بين قطاعات الخدمات الطبية، وهو ما يؤدي لانتقال الكفاءات الطبية من القطاع العام إلى الخاص، وسعي المرضى للحصول على الخدمة الطبية وأحدث معالجاتها في القطاع الخاص، بل ويؤدي هذا الفساد إلى هجرة الكفايات الطبية وكوادرها إلى دول الغرب حيث تبرز إنجازاتهم ورقي أبحاثهم العلمية، التي تستفيد منها بلاد الغرب المستعمر، بينما تدفعهم بلادهم بسياساتها العقيمة، ثم تعقد المؤتمرات الطبية، كمؤتمر الكفايات الصحية المهاجرة لوزراء الصحة العرب الذي يعقد هذه الأيام في عمان، دون التطرق للأسباب الحقيقية، الآنف ذكرها، علاوة على التبعية السياسية للغرب التي تحول بين توحيد بلاد المسلمين وبالتالي رفع الكفايات التي تميزت بها الدولة الإسلامية على مر عصورها.
والوضع الاقتصادي البائس والمتدهور في الأردن، هو الذي أوصل الدولة إلى مستويات متدنية من الفقر والعوز والتقصير في الخدمات الرعوية كالصحة والتعليم، وهو الذي أدى إلى تدني المقدرة المالية للناس لمواجهة أعباء العيش الكريم، وذلك من خلال اتباع برامج صندوق النقد الاستعماري، حيث أفاد البنك المركزي الأردني ووزارة المالية بأن الدين العام الحكومي ارتفع إلى 116.1% من الناتج المحلي الإجمالي ليصل إلى 45 مليار دينار، وبمقدار 2 مليار دينار مقارنة بالفترة ذاتها من عام 2023، وحيث بلغت تكلفة خدمة الدين أي الربا حوالي 2.486 مليار دينار، فرغم الضرائب المجحفة وإيراداتها، تذهب معظمها لدفع مستحقات الديون ومستحقاتها الربوية، فتعجز الحكومة عن النفقات الرعوية نحو التعليم والصحة، ما يؤدي إلى تفاقم ما تقدم وصفه من مشاكل صحية تواجه الناس.

ومن هنا فإن الدولة هي المقصرة في تقديم الرعاية الصحية المناسبة لرعاياها، ورغم التقدم في مستويات الرعاية الطبية لكنها فردية لا تصل لكافة الناس بالمستوى الصحي المناسب واللائق ولا تقدمه في الوقت المناسب الذي لا يستطيع معه المريض الانتظار، فيلجأ الناس إلى القطاع الخاص ومستشفياته بتكاليفه الباهظة، في ظل تراجع قدرة الناس عن تحمل هذه النفقات، فتسبب سخطا تحاول الحكومة أن تعزوه إلى القطاع الخاص، وهي المسؤول الأول عنه، فالواقع البائس للمستشفيات الحكومية يُثبت بما لا يدع مجالاً للشك إهمال الدولة وتقصيرها في رعاية شؤون الناس. ولم يسلم القطاع الخاص من تعثر مستشفياته التي أغلق بعضها وتوقف بعضها عن العمل نتيجة تراكم الديون الربوية وبيعها بالمزادات العلنية، علاوة على الربحية العالية في تقاضي الأجور، تحت سمع ونظر وزارة الصحة.

إن الأصل في الرعاية الصحية والتطبيب أنها من المصالح والمرافق التي لا يستغني عنها الناس، فهي من الضروريات التي يجب توفيرها لكل الرعايا، قال ﷺ: «‏مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافىً فِي جَسَدِهِ، آمِناً فِي سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»، فقد جعل الرسول ﷺ الصحة حاجة، على أن عدم توفير الطب لمجموعة الناس يؤدي إلى الضرر، وإزالة الضرر واجبة على الدولة، قال ﷺ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»، فمن هذه الناحية كان التطبيب واجباً على الدولة، فقد أوجب الإسلام على الإمام رعاية شؤون رعيته، فقال ﷺ: «فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مسؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»، وضمن الإسلام لكل فرد من أفراد الرعية حاجاته الأساسية الفردية دون تفريق بينهم وهي: المأكل والمسكن والملبس، وحاجاته الأساسية الجماعية وهي: الأمن، والتعليم، والتطبيب.

وختاما نذكر مرة أخرى بأن الرعاية الصحية التي فرضها الإسلام وجعلها واجباً حصرياً على الدولة، ولم يجعلها على مؤسسات رديفة في القطاع الخاص، وإن سمح بممارسة التطبيب في القطاع الخاص، وفي عصر الحكم بالإسلام، وفّرت الخـ لافة رعاية صحية عالية الجودة وممولة من الدولة في كل ما يتعلق بالرعاية وفي أبهى وأرقى صورها، وهي التي نعمل لعودتها لتنعم الأمة والبشرية كافة بحياة صحية وخدمات علاجية تليق بالإنسان بوصفه إنساناً.

بقلم: د. خالد الحكيم