الموت في الإسلام وحب الشهادة
بسم الله الرحمن الرحيم
الموت في الإسلام وحب الشهادة
الموت هو الحقيقة التي لا يمكن لأحدٍ أن ينكرها، فقد أنكر فئام من الناس وجود الله تعالى -وهو حقيقة الحقائق- وأنكر المشركون البعث والجنة والنار وكثيراً من الحقائق القطعية التي لا شك فيها، أما الموت فلم ينكره أحد ولا يمكن لأحد إنكاره، فهي الحقيقة التي قهرت الجبابرة والطغاة، قال تعالى عن المشركين: ﴿وقالوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ﴾، فقد اعترفوا بالموت وأنكروا البعث والحساب.
الموت حقيقة ملموسة مدركة، وقد أكد القران الكريم هذه الحقيقة حيث قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ قال الحسن البصري رحمه الله: “ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت”، فالموت حقيقة قطعية لا جدال فيها وسببه الوحيد انتهاء الأجل؛ (يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم) وما قيل عنه أسباب هو حالات وليست سببا للموت.
وفلسفة الموت كانت محل نظر عند الأمم والشعوب والديانات والمبادئ، وليس بحثي حول هذه الأمور، ولكني سأنطلق من زاوية الإسلام ونظرته كوننا مسلمين ونحمل المفهوم الصحيح لفكرة الموت وهي محل البحث.
بداية؛ مما لا شك فيه أن الإنسان -وكذلك الكون والحياة- مخلوق لله عز وجل، فهي محدودة وكل محدود مخلوق، والإسلام بعظمته بيّن لنا علاقة الخالق بالوجود وعلاقة الوجود بما قبله وما بعده فعلاقة الخالق بالوجود علاقة (خلق وأمر ونهي) فالله وحده هو الخالق وله الأمر والنهي، وعلاقة الوجود بما بعده علاقة (بعث وحساب)، فالإنسان خُلق من العدم لوظيفة محددة وهي عبادة الخالق العظيم، والعبادة هنا بمعني الطاعة المطلقة للخالق في كل أفعال الإنسان بعد الإيمان المطلق، وقد اقتضت حكمة الله أن يمكث الإنسان فترة من الزمن في الدنيا ليربط الوجود بما قبله (إيمان وعمل) ثم يموت لينتقل إلى مرحلة البعث والحساب وربط الوجود بما بعده البعث والحساب .
فالموت في نظر الإسلام انتقال من مرحلة زائلة إلى أبدية، وصفها القران بأنها الحيوان، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ الدائمة التي لا زوال لها ولا انقطاع ولا موت معها.
والموت ليس هو انتهاء أبدياً أو فناء بل انتهاء مرحلة -مرحلة مؤقتة- إلى مرحلة أخرى هي الثابتة والدائمة، ليحاسب الإنسان على إيمانه وسلوكه في الحياة الدنيا، ثم يدركه الموت لينتقل من الدنيا إلى رحاب الآخرة نعيمها وجحيمها في حياة أبدية.
هذا التصور الذي يملكه المسلمون هو التصور الصحيح قطعاً، وهو التصور الإيجابي الذي له أثره الجميل على الإنسان في الحياة الدنيا، حيث يعيش الإنسان لغاية وهدف يجب عليه التزامه، بخلاف تصور الموت أنه انتهاء وفناء، فهو تصور سلبي وخطير يجعل من فكرة الموت ذعراً وخطراً تقعده عن العمل وتحقيق الغاية والهدف، لأنه مفهوم يخالف فطرته حيث فطر الإنسان على حب البقاء، وتجعل من مفاهيمه تخالف فطرته التي فطر عليها وتكون شخصيته مضطربة وفوضوية.
لكن تصور الإسلام بأنه انتقال من حياة مؤقتة لحياة أزلية ذات نعيم عظيم أو شقاء تجعل من سلوك الإنسان في الدنيا مسيراً بأوامر الله ونواهيه، لأننا ننظر للآخرة، فالسلوك منضبط بالحكم الشرعي، قال تعال: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾.
هذه نظرة الإسلام وفلسفته للحياة والموت، وهي فلسفة عظيمة وذات أثر وسلوك جميل راقٍ، لذا يطلب المسلم الشهادة لأنه في حقيقة الأمر يطلب الحياة الباقية والأزلية (الانتقال من الحياة الدنيا) إلى الآخرة (الحياة الأبدية) من حياة زائلة إلى الحياة الدائمة، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ وهذا التصور منسجم مع فطرة الإنسان التي فطرت على حب البقاء، فالمسلم حين يطلب الشهادة إنما يطلب البقاء الحقيقي أي ينتقل من الزوال إلى البقاء.
من هنا جاءت نظرة الإسلام للشهادة أنها حياة وأسمى أنواع الحياة قال تعالى: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ﴾، وقال: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ لذا كانت الشهادة في الإسلام هي الحياة وسر بهجتها، وهي سر الطموح والغايات والأهداف، وسر الحركة والثبات، والالتزام بشرع الله بخلاف من يرى في الموت خسراناً وحسرة وندامة.
لقد نظر الإسلام إلى الشهادة في سبيل الله أنها أعلى مطالب المسلم وقمة الانسجام بين المفاهيم والفطرة البشرية، فكيف لمسلم أن يخاف من الشهادة وهي أسمى أمانيه فهو يطلب الحياة الحقيقية، وكيف له أن يخشى من المعارك وهي مظنة الانتقال إلى الحياة الأبدية والنعيم ورضوان من الله أكبر.
من هنا لا نعجب من بطولات المسلمين في المعارك وفي الصفوف الأولى حيث الملاحم وشدة المعارك يوم تكشف الحرب عن ساقيها، فيتقدم المسلم طلباً وطمعاً في الشهادة. كيف لا وهي لقاء رب العالمين في الحياة الحقيقية.
لقد كتب خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه فيما رواه ابن كثير في البداية والنهاية وغيرهما من المؤرخين (أن خالدا رضي الله عنه كتب إلى ملك فارس: بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس، فالحمد لله الذي حل نظامكم ووهن كيدكم، وفرق كلمتكم… فأسلموا وإلا فأدوا الجزية وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة).
هذه العقيدة التي يخشاها الغرب والكفر والتي يبحث عنها لجنوده فتراه يضع لجيشه الإستراتيجيات والعقائد القتاليّة لكنهم يدفعونهم إلى المعارك دفعاً وقهراً بخلاف المسلم الذي يحمل كل منهم عقيدته القتاليّة فما أن يسمع صيحات ونداء الجهاد الله أكبر، حتى يلبي النداء تاركاً خلفه حياة الزوال وما فيها من ملذات ونعيم إلى حياة أبدية وصفها رب العالمين للمؤمنين وصفاً دقيقاً في كتابه العزيز.
فعندما نسمع خبراء عسكريين يتحدثون عن عجائب ومعجزات في غزة، فعن أي عجائب يتحدثون وهم لا يعلمون حقيقة تلك العقيدة القتاليّة؟! وعن أي بطولات وملاحم يخوضها المسلمون، وقد أدرك المسلم حقيقة وجوده وغايته منها؟ وقد آمن بالبعث والحساب رابطا الحياة الدنيا بما قبلها وما بعدها فيتقدم للنزال ولا ينظر خلفه؟
إنها عقيدة الإسلام التي توّلد المعجزات والبطولات فيما لا يدركه كافر قط، فقد كانت ولا زالت البطولات أشبه بالمعجزات في فلسطين وغزة خاصة والشيشان والبوسنة وافغانستان والعراق والجزائر وليبيا، فأمة الإسلام ليست كغيرها في الجهاد لشدة تعلق المسلمين به أصبح من مفاهيم الأعماق، روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما عدل به: أتى النبي ﷺ وهو يدعو على المشركين فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: (فاذهب أنت وربك فقاتلا)، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك، فرأيت النبي ﷺ أشرق وجهه وسره) ولن تغلب أمة الإسلام في ميادين الجهاد، وهذا ما يخشاه الغرب فأخذ يضرب مفاهيم الجهاد ظناً منه أنه سيطفئ نوره ولكن هيهات هيهات.
كتبه للمكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية الأردن
أ. حسن حمدان