إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي معنى الاقتصاد (ح 34)
إرواء الصادي من نمير النظام الاقتصادي
معنى الاقتصاد (ح 34)
الحَمْدُ للهِ الذِي شَرَعَ لِلنَّاسِ أحكَامَ الرَّشَاد, وَحَذَّرَهُم سُبُلَ الفَسَاد, وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى خَيرِ هَاد, المَبعُوثِ رَحمَةً لِلعِبَاد, الَّذِي جَاهَدَ فِي اللهِ حَقَّ الجِهَادِ, وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الأَطهَارِ الأمجَاد, الَّذِينَ طبَّقُوا نِظَامَ الِإسلامِ فِي الحُكْمِ وَالاجتِمَاعِ وَالسِّيَاسَةِ وَالاقتِصَاد, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ يَومَ يَقُومُ الأَشْهَادُ يَومَ التَّنَاد, يَومَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العِبَادِ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا إِروَاءُ الصَّادِي مِنْ نَمِيرِ النِّظَامِ الاقتِصَادِي, وَمَعَ الحَلْقَةِ الرَّابِعَةِ وَالثَّلاثِينَ, وَعُنوَانُهَا: “المعنى اللغوي لكلمة الاقتصاد”. نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي كِتَابِ النِّظَامِ الاقتِصَادِي فِي الإِسلامِ (صَفحَة 55) لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
“كَلِمَةُ الاقتِصَادِ مُشتَقَّةٌ مِنْ لَفظٍ إِغرِيقِيٍّ قَدِيمٍ مَعنَاهُ (تَدبِيرُ أُمُورِ البَيتِ) بِحَيثُ يَشتَرِكُ أَفرَادُهُ القَادِرُونَ فِي إِنتَاجِ الطَّيبَاتِ، وَالقِيَامِ بِالخِدْمَاتِ، وَيَشتَرِكُ جَمِيعُ أَفرَادِهِ فِي التَّمَتُّعِ بِمَا يَحُوزُونَ. ثُمَّ تَوَسَّعَ النَّاسُ فِي مَدلُولِ البَيتِ، فَصَارَ يُقصَدُ بِهِ الجَمَاعَةُ التِي تَحكُمُهَا دَولَةٌ وَاحِدَةٌ”.
ونَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ: عِندَ الحَدِيثِ عَنِ مَعنَى أَيَّةِ لَفظَةٍ, يَحْسُنُ بِنَا أَنْ نَعرِضَهَا عَلَى كِتَابِ اللهِ تَعَالَى, لِنَرَى كَمْ مَرَّةً تَكَرَّرَتْ فِيهِ, وَمَا المَعنَى أَوِ المَعَانِي التِي أَتَتْ لَهَا. وَعِندَ البَحْثِ وَجَدْنَا أَنَّ مَادَّةَ “قَصَدَ” بِصِيَغِهَا المُختَلِفَةِ قَدْ تَكَرَّرَتْ فِي القُرآنِ خَمْسَ مَرَّاتٍ:
- قَالَ تَعَالَى: (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ). (النحل 9)
- وَقَالَ: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ). (المائدة 66)
- وَقَالَ أيضًا: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ). (لقمان 19)
- وَقَالَ: (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ). (لقمان 32)
- وَقَالَ: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ). (فاطر 32)
وَعِندَ البَحْثِ أيضًا وَجَدْنَا أَنَّ مَادَّةَ “قَصَدَ” وَرَدَتْ فِي السُّنةِ, مِنهَا عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ مَا رَوَاهُ البَيهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمَانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلاثٌ مُنْجِيَاتٌ، وَثَلاثٌ مُهْلِكَاتٌ، فَأَمَّا الْمُنْجِيَاتُ: فَتَقْوَى اللهِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْقَوْلُ بِالْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالسُّخْطِ، وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَأَمَّا الْمُهْلِكَاتِ: فَهَوًى مُتَّبِعٌ، وَشُحٌّ مُطَاعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ، وَهِيَ أَشَدُّهُنَّ». وَالشَّاهِدُ فِيهِ قَولُهُ: «وَالْقَصْدُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ». وَالقَصْدُ هُنَا مَعنَاهُ التَّوَسُّطُ وَالاعتِدَالُ في إِنفَاقِ المَالِ. وَلكي نَتَعَرَّفَ مَعنَى كَلِمَةِ “اقتِصَاد” نَنقُلُ إِلَيكُمْ أقوَالَ بَعْضِ المُفَسِّرِينَ:
- قَالَ القُرطُبِيُّ: (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ): الْقَصْدُ مِنَ الطَّرِيقِ: الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لاَ اعْوِجَاجَ فِيهِ.
- وَقَالَ الأَلُوسِيُّ: (أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ): أي طَائِفَةٌ عَادِلَةٌ غَيرُ غَالِيَةٍ وَلا مُقَصِّرَةٍ.
- وَقَالَ الأَلُوسِيُّ: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ): أيْ تَوَسَّطْ فِيهِ بَينَ الدَّبِيبِ وَالإِسرَاعِ مِنَ القَصْدِ وَهُوَ الاعتِدَالُ.
- وَقَالَ الأَلُوسِيُّ أيضًا: (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ): أَيْ سَالِكٌ القَصْدَ أَيِ الطَّرِيقَ المُستَقِيمَ لا يَعدِلُ عَنهُ لِغَيرِهِ. وَقِيلَ: مُقتَصِدٌ مِنَ الاقتِصَادِ بِمَعنَى التَّوَسُّطِ وَالاعتِدَالِ. وَالمُرَادُ حِينَئِذٍ عَلَى مَا قِيلَ: مُتَوَسِّطٌ فِي أَقوَالِهِ وَأَفعَالِهِ بَينَ الخَوفِ وَالرَّجَاءِ, مُوفٍ بِمَا عَاهَدَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَيهِ.
- وَقَالَ الأَلُوسِيُّ كَذَلِكَ: (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ): الفَاءُ لِلتَّفصِيلِ لا لِلتَّعلِيلِ، وَالظَّالِمُ لِنَفسِهِ مَنْ قَصَّرَ فِي العَمَلِ بِالكِتَابِ وَأَسرَفَ عَلَى نَفْسِهِ. وَالمُقْتَصِدُ: مَنْ يَتَرَدَّدُ بَينَ العَمَلِ بِهِ وَمُخَالَفَتِهِ, فَيَعمَلُ تَارَةً وَيُخَالِفُ أُخرَى، وَأَصلُ مَعنَى الاقتِصَادِ التَّوَسُّطُ فِي الأَمرِ.
وَعِندَ البَحْثِ كَذَلِكَ وَجَدْنَا أَنَّ لَفظَةَ “اقتِصَاد” فِي مُجْمَلِهَا تَعنِي التَّوَسُّطَ وَالاعتِدَالَ فِي الأمْرِ. أيْ أنَّهَا لَمْ تَخرُجْ عَنْ مَعنَى “التَّدبِيرِ” الوَارِدِ فِي كَلامِ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ رَحِمَهُ اللهُ.
وَفِي هَذَا المَقَامِ يَحضُرُنِي امتِدَاحُ نَبِيِّنا الكَرِيمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ الأَشعَرِيِّينَ لِقِيَامِهِمْ بِتَدبِيرِ شُؤُونِهِمُ الاقتِصَادِيَّةِ. رَوَى البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشعَرِيِّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ, جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ, ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ, فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ».
هَذَا وَقَد كَانَ أَهلُ الشَّامِ خُصُوصًا فِي فِلَسطِينَ وَسُوريَا وَالأُردُنِّ, إِلَى عَهْدٍ قَرِيبٍ يَقُومُونَ بِتَدبِيرِ شُؤُونِ بُيُوتِهِمُ الاقتِصَادِيَّةِ, وَكَانَتِ الجَدَّةُ تَتَوَلَّى هَذَا الأَمرَ فِي العَائِلَةِ, بَعدَ تَجهِيزِ مَا كَانَ يُعرَفُ بِـ “العِلِّيَّةِ” أو “الخَابِيَةِ” التِي يُخَبَّأُ فِيهَا بَعضُ أَنوَاعِ الطَّعَامِ لِحِينِ الحَاجَةِ, وَتَجهِيزِ مَا كَانَ يُعرَفُ بِـ “بَيتِ المُونَةِ” الذِي كَانَتِ الجَدَّةُ هِيَ وَحدَهَا المَسؤُولَةُ عَنهُ, وَتَحمِلُ مِفتَاحَهُ مَعَهَا أَينَمَا حَلَّتْ وَرَحَلَتْ, وَكَانَتْ فِي نِهَايَةِ مَوسِمِ الحَصَادِ مِنْ كُلِّ عَامٍ, تَحتَفِظُ فِيهِ بِكَمِّيةٍ وَفِيرَةٍ مِمَّا تُنتِجُ الأَرضُ مِنْ حُبُوبٍ وَزَيتٍ وَزَيتُونٍ وَغَيرِهَا, وَمَا تُنتِجُ الأَنعَامُ مِنْ مُنتَجَاتِ لُحُومٍ وَسَمْنٍ وَعَسَلٍ وَإِقطٍ وَغَيرِهَا تَكفِيهِمْ طِيلَةَ أَيَّامِ العَامِ. وَقَدْ كَانَتِ الجَدَّةُ مُوَفَّقَةً فِي عَمَلِهَا إِلَى أَبعَدِ حَدٍّ! وَكَانَتْ هَذِهِ الطَّرِيقَةُ نَاجِحَةً أَيَّمَا نَجَاحٍ فِي تَدبِيرِ شُؤُونِ بُيُوتِ أَهلِ الشَّامِ الاقتِصَادِيَّةِ!
وَقَبلَ أَنْ نُوَدِّعَكُمْ أحبتنا الكِرَامَ نُذَكِّرُكُمْ بِأَبرَزِ الأفكَارِ التِي تَنَاوَلهَا مَوضُوعُنَا لِهَذَا اليَومِ:
- كَلِمَةُ الاقتِصَادِ مُشتَقَّةٌ مِنْ لَفظٍ إِغرِيقِيٍّ قَدِيمٍ مَعنَاهُ (تَدبِيرُ أُمُورِ البَيتِ).
- تَوَسَّعَ النَّاسُ فِي مَدلُولِ البَيتِ، فَصَارَ يُقصَدُ بِهِ الجَمَاعَةُ التِي تَحكُمُهَا دَولَةٌ وَاحِدَةٌ”.
- عِندَ الحَدِيثِ عَنِ مَعنَى أَيَّةِ لَفظَةٍ, يَحْسُنُ بِنَا أَنْ نَعرِضَهَا عَلَى كِتَابِ اللهِ تَعَالَى.
- مَادَّةَ “قَصَدَ” بِصِيَغِهَا المُختَلِفَةِ قَدْ تَكَرَّرَتْ فِي القُرآنِ خَمْسَ مَرَّاتٍ. وَهِيَ لا تَخرُجُ عَنْ مَعنَى الاعتِدَالِ وَ”التَّدبِيرِ” الوَارِدِ فِي كَلامِ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ.
- امتَدَحَ نَبِيُّنا الكَرِيمُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ الأَشعَرِيِّينَ لِقِيَامِهِمْ بِتَدبِيرِ شُؤُونِهِمُ الاقتِصَادِيَّةِ.
- كَانَ أَهلُ الشَّامِ خُصُوصًا فِي فِلَسطِينَ وَسُوريَا وَالأُردُنِّ, إِلَى عَهْدٍ قَرِيبٍ يَقُومُونَ بِتَدبِيرِ شُؤُونِ بُيُوتِهِمُ الاقتِصَادِيَّةِ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الَمولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ على منهاج النبوة في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.