8 من شوال 1445    الموافق   Mar 29, 2024

بسم الله الرحمن الرحيم




همسات

 

الثقة بالله ليست شعارا بل عقيدة والثقة بالله ثقة بوعده

 

قررت وزارة الأوقاف أن تكون خطبة الجمعة الموحد (الثقة بالله تعالى شعار المؤمنين) 2019/2/15الموافق 10 جمادي الآخرة 1440هـ، وسيكون لنا وقفات مع هذا العنوان فنقول وبالله التوفيق :-

 

لقد كثر في زماننا هذا القلق، وتواردت الهموم، وادلهمت الأحزان على كثير من المسلمين عندما يُنظر إلى حالهم وحال سائر الناس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وما يرى من قتل وحرق وإغتصاب ودمار وفرقة وعذاب وأي حال وصلت له أمة الإسلام حتى أصاب بعضهم اليأس والقنوط وراودت الظنون عقول بعضهم وقعدت الهمم عن العمل نتيجة اليأس والخوف والقنوط وتعلّق بعضهم بغير الله لخوف على رزق مقسوم أو أجل محتوم.

 

وتعلّق المخلوق بالمخلوق فصار يخشاه ويرجوه، وربما باع دينه بعرض من الدنيا قليل، قال ابن مسعود رضي الله عنه: " إن الرجل ليخرج من بيته ومعه دينه فيلقى الرجل وله إليه حاجة فيقول له: أنت كيت وكيت!-يثني عليه-؛ لعله أن يقضي من حاجته شيئاً فيسخط الله عليه، فيرجع وما معه من دينه شيء". وقال تعالى: ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ﴾ وقال: ﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً )، قال إبن القيم: " أي: كافي من يثق به في نوائبه ومهماته، يكفيه كل ما أهمه، وكلما كان العبد حسن الظن بالله حسن الرجاء له، صادق التوكل عليه، فإن الله لا يخيب أمله فيه البتة؛ فإنه سبحانه لا يخيب أمل آمل ولا يضيع عمل عامل، وعبر عن الثقة وحسن الظن بالسعة؛ فإنه لا أشرح للصدر ولا أوسع له بعد الإيمان من ثقته بالله ورجائه له وحسن ظنه به"

 

وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: (إن الله جل وعلا يقول: أنا عند ظن عبدي بي: إن ظن خيراً فله، وإن ظن شراً فله) وقال ابن مسعود رضي الله عنه: " ما أعطي عبد مؤمن شيئاً خيراً من حسن الظن بالله تعالى، والذي لا إله إلا هو لا يحسن عبد بالله الظن إلا أعطاه الله عز وجل ظنه، ذلك أن الخير في يده".

إن الثقة بوعد الله سبحانه وتعالى من الأسس التي يجب على المسلمين أن يؤمنوا بها إيماناً راسخاً لا يشوبه ريب، ولا يخالطه شك، قال تعالى: ( فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ) أما عدم الثقة بوعد الله عزل وجل، أو مجرد الشك في ذلك، إنما هو من صفات الكفار والمنافقين والذين في قلوبهم مرض، قال سبحانه وتعالى: ( وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا ).

وهنا يأتي دور أثر العقيدة في حياة المسلمين، فعقيدة المسلم ليست مجرد كلمات ولاشعارات بل هي مفاهيم راسخة قوية ضبطت السلوك والمسلم واثق بوعد الله سبحانه وتعالى، وبحتمية نصر الله للإسلام فكان لا بد من إحياء العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين، وإزالة الأتربة عنها، وإعادة ثقتهم بالله وبوعد الله سبحانه وتعالى… والآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة التي تعالج هذه المسألة كثيرة جداً، والذي يتابع آيات القرءان الكريم يجدها قد أكدت على أنَّ وعد الله آتٍ لا ريب فيه، وأن النصر حليف المؤمنين إن هم استمسكوا بالعروة الوثقى، ونصروا الله، وقاموا على حدوده، قال تعالى: ( وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ )وأكدت كذلك على أن مع العسر يسراً، وأن الله غالب على أمره، وأن الله مظهر الإسلام على الدين كله ولو كره الكافرون. يقول سبحانه وتعالى: ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ) ويقول: ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ )

 

والمؤمنون واثقون بوعد الله سبحانه وتعالى، وهذه الثقة تملأ عليهم نفوسهم وقلوبهم وعقولهم. فمهما ابتلوا، ومهما اختبروا، ومهما ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فهم واثقون مطمئنون لوعد الله

أما الكفار والمنافقون والذين في قلوبهم مرض وضعيفو الإيمان فإن حقيقتهم تتجلى عند أول عثرة، ولعل أبرز ما يوضّح ذلك ما بيّنه القرآن في سورة الأحزاب لذلك الموقفين المختلفين المتباينين. الموقف الأول أظهرته هذه الآية الكريمة: ( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ) وموقف المنافقين الذي أظهرته وفضحته هذه الآية الكريمة ( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا )، المؤمنون يصدقون الله ورسوله، ويزيدهم ذلك الموقف إيماناً على إيمانهم، والمنافقون يكذبون الله ورسوله، لذا فقد تحدد موقف المؤمنين وهو موقف متميز بالثقة المطلقة بوعد الله، وهو موقف لا يتزعزع ولا يضطرب وإلا كان هناك شك في الإيمان

 

ويؤكد الله سبحانه وتعالى نصره لدينه ولعباده المؤمنين رغم كل محاولات الكفار وأعوانهم للنيل من المسلمين وإطفاء نور الإسلام فيقول: ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) ويقول جل من قائل: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ).

 

وقد وعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنصر والفرج مرات كثيرة، وفي مناسبات عديدة، فهذا بلال يُسحب على رمضاء مكة الملتهبة، وتوضع على صدره الصخرة الكبيرة، وهذا ياسر وزوجته سمية وابنهما عمار تُشوى جلودهم بالسياط وبشتى أنواع العذاب، وهذا عثمان بن عفان يلفه عمه في حصير ويدخن عليه، ومصعب تحبسه أمه مقيَّداً في بيتهما، والمسلمون يفتنون في دينهم، ويُضيَّق عليهم في حياتهم وأرزاقهم، وخباب كانت أم أنمار مولاته تضع الحديد بعد وضعه على النار تضعه على رأسه فيغلي منه ، فيأتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شاكياً: يا رسول الله ألا تدعو لنا ألا تستنصر لنا. فيغضب رسول الله عليه الصلاة والسلام ويجيبه إجابة الواثق بربه و بوعده: «والله ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون». وقال عليه الصلاة والسلام: «بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض، فمن عَمِلَ منهم عَمَلَ الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب»

لقد تحقق وعد الله ووعد رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقامت دولة الإسلام، وهزمت قريش، وظهر الإسلام، ومحى الله الشرك من أرض الجزيرة العربية، وتقوض بنيان يهود، وغاب ملك فارس والروم عن الوجود، وفتحت القسطنطينية، وخفقت راية العقاب فوق أكثر بقاع الأرض، وكانت الدولة الإسلامية هي الدولة الأولى في العالم مدة ثلاثة عشر قرناً، وظلت كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.

إن الإيمان بوعد الله بالنصر، والإيمان بالاستخلاف في الأرض، والإيمان بتحقق الأمن والأمان الحقيقي وليس المزيف أو المدعى ، والإيمان بالغلبة على الكفار وأعوانهم، وعلى المعاندين، والمتكبرين، والظلاميين، والعلمانيين… حقيقة يجب أن تكون راسخة عند المسلمين ، وبديهية حتى ولو لم يحسوا بها أو يشاهدوا مقدماتها ثقة بالله ووعده .

إن الله سبحانه وتعالى الذي أنجز وعوده لرسله عليهم الصلاة والسلام وسوف ينجز لنا وعده بالنصر والتمكين في الأرض والسيادة على جميع الأمم، والعزة للإسلام… ووعود رسوله عليه الصلاة والسلام التي حققها الله للمؤمنين كما سبق وبيّنا ولو بعد حين، يجب أن نكون على ثقة بتحقق الوعود التي مازالت في علم الغيب؛ فالنصر آت، والعزة آتية، والدولة الإسلامية التي سيعز الله سبحانه وتعالى بها الإسلام وأهله ويذل الكفر وأهله بإذن الله لابد قائمة من جديد، كما أخبر الرسول الكريم صلوات ربي وسلامه عليه بذلك حيث قال عن هذا الزمان فيما رواه أحمد: «… ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت».

 

وسينتصر المسلمون على يهود ثانية ويظهرون عليهم قال تعالى: ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) ووعد الرسول الكريم بذلك فقال: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود». وستفتح روما كما فتحت القسطنطينية قبلها قال تعالى: ( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ) فشمروا عن سواعد الجد والعمل للإسلام وأروا الله فيكم قوة ولا يتسرب اليأس والقنوط إلى عقولكم مهما كانت الأحوال والظروف فإن نصر الله قريب وكل ما هو آت قريب.

 

والحمد لله رب العالمين

 

     
09 من جمادى الثانية 1440
الموافق  2019/02/14م
   
     
 
  الكتب المزيد
 
  • الدولـــة الإسلاميـــة (نسخة محدثة بتاريخ 2014/12/04م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند فتح الملف) الطبعة السابعة (معتمدة) 1423ه... المزيد
  • من مقومات النفسية الإسلامية الطبعـة الأولى 1425هـ - 2004 م   (نسخة محدثة بتاريخ 2014/10/21م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند فتح الم... المزيد
  • النظام الاقتصادي في الإسلام الطبعة السادسة (طبعة معتمدة) 1425 هـ - 2004م   (نسخة محدثة بتاريخ 2014/01/04م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة... المزيد
  • النظام الاجتماعي في الإسلام الطبعة الرابعة 1424هـ - 2003م (معتمدة)   (نسخة محدثة بتاريخ 2013/09/10م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند ف... المزيد
  • نظــــام الإســـلام   الطبعة السادسة (طبعة معتمدة) 1422هـ - 2001م   (نسخة محدثة بتاريخ 2012/11/22م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الص... المزيد