4 من ذي القعدة 1445    الموافق   Apr 23, 2024

بسم الله الرحمن الرحيم




 

همسات

الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة

تعني الدعوة بالحجة الدامغة والتحدي السافر

 

حددت وزارة الأوقاف موضوع الخطبة الموحدة ليوم الجمعة 23 صفر 1440ه الموافق2018/11/2 م بعنوان: "الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة"، ولأنه أصبح يراد لمفهوم الحكمة والموعظة الحسنة والجدال على غير معناها الحقيقي؛ بحيث أخرجت عن سياقها ومفهومها وحقيقتها،  بل وظف هذا المفهوم من قبل الدولة في غير سياقه ولخدمة الحاكم وليس طاعة لله، وحصر الدعوة إلى الاسلام في الاخلاق والعبادات وإبعاد الدعوة عن العمل للتطبيق العملي لأحكام الإسلام الشرعية في كل أنظمة الحياة وعلى رأسها محاسبة الحكام على الحكم بغير ما أنزل الله، فأصبح اللين والضعف حكمة، والسكوت أحيانا حكمة، حتى أصبحت الحكمة ضعفاً وكلمة فضفاضة لا حد لها وكيان ولا حقيقية، لذا كان لا بد لنا من بيان طريق حمل الدعوة من خلال الآية القرآنية التي تبين طرق الدعوة إلى الله فنقول وبالله التوفيق:

 

قال الله تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)فهذه الآية تبين كيفية الدعوة إلى الإسلام والمخاطبة بخلاف حمل الدعوة إلى الإسلام من خلال الدولة الإسلامية التي لا تكون إلا عن طريق الدولة و الجهاد لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إِذَا أَمَّرَ رَجُلا عَلَى سَرِيَّةٍ قَالَ لَهُ " إِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَادْعُهُمْ إِلَى إِحْدَى ثَلاثِ خِصَالٍ أَوْ خِلالٍ فَأَيَّتُهُنَّ أَجَابُوكَ إِلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ أَنَّ عَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، وَلَهُمْ مَا لَهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْافَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ شَيْءٌ إِلا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا أَنْ يَدْخُلُوا فِي الإِسْلامِ فَسَلْهُمْ إِعْطَاءَ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ أَجَابُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ ".

 

وهي أيضا غير الدعوة لإستئناف الحياة الإسلامية بإقامة الدولة الإسلامية التي لا تكون إلا بعمل جماعي أي تكتل له أمير، متخذة من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم طريقة ملزمة لكيفية إقامتها. أما دعوة الناس إلى الإسلام فإن الآية تبين أن الناس يدعون إلى دين الله بثلاث طرق أحدها الدعوة بالحكمة، والحكمة هنا هي البرهان العقلي وهي الحجة الدامغة والقول المقنع لأن هذا هو الذي يؤثر في النفوس؛ أي نفوس، لأن الإنسان لا يملك أن يغلق عقله أمام البراهين القاطعة وأمام الفكر القوي، ولذلك كانت الدعوة بالحجة والبرهان مؤثرة على المفكرين ومؤثرة على غير المفكرين، ويخشاها الكفَرة والملحدون، كما يخشاها الضالون المضلون لأنها تكشف زيف الباطل وتضيء وجه الحق، وهي التي تكون ناراً تحرق الفساد ونوراً يهدي إلى الصلاح.


ومن هنا نجد القرآن الكريم جاء بالبراهين القاطعة والحجج الدامغة وخاطب العقول، وكان من أعمق ما صيغ من كلام ومن أبلغ ما عُرض من حجج وبراهين، وهكذا يجب أن تكون إحدى طرق الدعوة بالحكمة؛ أي بالبرهان العقلي المقنع، قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۚ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، ومن الخطأ أن يظن أحد أن الحكمة هي التأني والتؤدة أو أنها اللين والمسايرة والمساومة في دين الله، فإن هذا المعنى لم يرَد لها مطلقاً، فالحكمة إما وضع الأمور موضعها وإما الحجة والبرهان، وفي الآية لا محل لتفسيرها بوضع الأمور موضعها فيتعين أن يكون معناها الحجة والبرهان.

 

أما الطريق الثاني من طرق الدعوة فهو الموعظة الحسنة، وهي تعني التذكير الجميل وهو يعني إثارة مشاعر الناس حين مخاطبة عقولهم وإثارة أفكارهم حين مخاطبة مشاعرهم حتى يصحب إدراكهم لما يدعون إليه حماس للعمل به وللعمل له، وقد سار القرآن على ذلك، فكان في الوقت الذي يخاطب الفكر يثير المشاعر، قال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ). وقال تعالى: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا).

 

أما الطريق الثالث فهو الجدال بالتي هي أحسن، وهو النقاش الذي يُحصر بالفكرة ويأخذ دور الهجوم ويعمد فيه صاحبه إلى نقض الحجج الباطلة وإعطاء الحجج الصادقة مع تحري الوصول إلى الحق، ولذلك يحتوي أمرين: هدماً وبناء، نقضاً وإقامة براهين.

قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ۖ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). وقال تعالى: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَٰهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

 

وهناك أساليب كثيرة من الجدل جاء بها القرآن وهذا هو الجدال بالتي هي أحسن، ومن الخطأ أن يُظَن أن معنى الجدل بالتي هي أحسن هو الجدل بالهدوء واللين، بل هو قرع الحجة بالحجة، تماماً كأساليب الجدل التي في القرآن.


​هذه هي الطرق الثلاث في الدعوة، وهي جميعها لا بد أن يقال فيها الحق أينما كان القائل، أمام الحكام أم أمام الناس، ويجب أن يعطي فيها الفكرة صريحة واضحة، ويجب أن يكون متحدياً سافراً مؤمناً بالحق الذي يدعو إليه، يتحدى الدنيا بأكملها، يتحدى الحكام والجبابرة، ويعلن الحرب على الأحمر والأسود من الناس دون أن يحسب أي حساب لعادات أو تقاليد أو أديان أو عقائد أو حكام أو سوقة، ولا يلتفت إلى شيء سوى رسالة الإسلام.


فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بادأ قريشاً بذكر آلهتهم وعابها، وتحداهم في معتقداتهم وسفّهها وهو فرد أعزل لا عُدّة معه ولا مُعين له ولا سلاح عنده سوى إيمانه العميق بالإسلام الذي يدعوه إليه، ولم يأبَهْ بعادات العرب وعقائدهم ولم يجاملهم بها ولم يراعهم في شأنها، فقد تلا عليهم قوله تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ)،(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)، (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ *مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ)، وكانت قريش تتمنى لو يهادنهم، قال تعالى: (ودّوا لو تُدهِن فيُدهِنون)، ولكن ظل في هجومه الصاعق حتى أزال الكفر، وكذلك حملة الدعوة يجب أن تكون دعوتهم سافرة متحدية في قوة الإعصار الجارفة، تحمل راية لا إله إلا الله محمد رسول الله الى الناس أجمعين وهذه الدعوة هي دعوة الله فلها النصر والتمكين والوعد من الله قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).

 

والحمد لله رب العالمين.

 

 

     
23 من صـفر 1440
الموافق  2018/11/01م
   
     
 
  الكتب المزيد
 
  • الدولـــة الإسلاميـــة (نسخة محدثة بتاريخ 2014/12/04م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند فتح الملف) الطبعة السابعة (معتمدة) 1423ه... المزيد
  • من مقومات النفسية الإسلامية الطبعـة الأولى 1425هـ - 2004 م   (نسخة محدثة بتاريخ 2014/10/21م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند فتح الم... المزيد
  • النظام الاقتصادي في الإسلام الطبعة السادسة (طبعة معتمدة) 1425 هـ - 2004م   (نسخة محدثة بتاريخ 2014/01/04م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة... المزيد
  • النظام الاجتماعي في الإسلام الطبعة الرابعة 1424هـ - 2003م (معتمدة)   (نسخة محدثة بتاريخ 2013/09/10م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند ف... المزيد
  • نظــــام الإســـلام   الطبعة السادسة (طبعة معتمدة) 1422هـ - 2001م   (نسخة محدثة بتاريخ 2012/11/22م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الص... المزيد