8 من ذي القعدة 1445    الموافق   Apr 27, 2024

بسم الله الرحمن الرحيم




همسات حول خطبة الجمعة


إنه لمن مراقبة الله وتقواه أن يكون موضوع خطبة الجمعة عن ما يتعرض له المسلمون في بورما من إبادة بأيدي البوذيين السفلة، وعن واجب الأمة الإسلامية تجاه هذه المجازر، وعن واجب جيوش المسلمين في نصرة إخوانهم في بورما، وعن تخاذل وتواطؤ حكام المسلمين في سفك دماء المسلمين في كل مكان، لتكون خطبة الجمعة في قضية عامة عند المسلمين، وكي لا ينفصل المسلمون في الأردن عن واقع وقضايا أمتهم ومع ذلك نقول:


أولا: إن مراقبة الله هي جوهر العبودية والالتزام في الإسلام، بل اعتبرها الإسلام أعلى المراتب والدرجات في الالتزام حيث ورد في الحديث في بيان معنى الإحسان هو «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
وهي «أن تعبد الله كأنك تراه». يشير إلى أن العبد يعبد الله على هذه الصفة، وهي استحضار قربه، وأنه بين يديه كأنه يراه، وذلك يوجب الخشية، والخوف، والهيبة، والتعظيم، ولذا جاء في رواية أبي هريرة عند مسلم بلفظ: "أن تخشى الله كأنك تراه». أن تعبد الله لأنه يراك، والمعنى إذا لم تستطع أن تعبد الله كأنك تراه وتشاهده رأي العين، فانزل إلى المرتبة الثانية، وهي أن تعبد الله لأنه يراك.

عن عبد الله بن معاوية رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ من فعلهنَّ فقد طَعِم طعمَ الإيمان: من عبد الله وحده، وأنه لا إله إلا الله. وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، رافدةً عليه كلَّ عام، ولا يعطي الهرِمَة، ولا الدَّرِنَة، ولا المريضة، ولا الشَّرَطَ اللئيمة، ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره. وزكـى نفسه». فقال رجل: وما تزكية النفس؟ فقال: «أن يعلم أن الله عز وجل معه حيث كان». رواه أبو داود، والطبراني في الأوسط، والبيهقي.
قال ابن المبارك لرجل: راقب الله تعالى، فسأله عن تفسيرها فقال: كن أبدًا كأنك ترى الله عز وجل. وقيل لبعضهم: متى يهش الراعي غنمه بعصاه عن مراتع الـهَلَكة؟ فقال: إذا علم أنَّ عليهِ رقيبًا.


ثانيا: إن مراقبة الله تعالى هي ضرب للعقيدة العلمانية التي يراد للمسلمين أن يعتنقوها بعد تضليل معناها الحقيقي وهو فصل الدين عن الحياة؛ لأن الغرب فصل فصلًا تامًا بين الخالق وعلاقته بالحياة الدنيا، بل الذي يشرع للإنسان هو الإنسان بعيدًا عن حكم الله، ولتوضيح هذه الفكرة نقول:
إن الله تعالى قد ربط بين الحياة الدنيا بما قبلها وما بعدها فعلاقة الدنيا بما قبلها هي علاقة خلق وأمر، فالله هو الخالق وله الأمر والنهي. وعلاقة الدنيا بما بعدها علاقة بعث وحساب، حساب على الإيمان بالله في الدنيا، والالتزام بأمره واجتناه نهيه، فيحاسب الله الإنسان على ما قدم في الحياة الدنيا، وهو لم يخلقه ليقرر هو بأي نظام يحكم لتكون السيادة للأمة أو العقل كما هو شأن العلمانية بل السيادة للشرع أي لله سبحانه قال تعالى: (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين). لقد قال الشيوعيون والمادِّيون: ليس لله الخلْقُ أوِ الأمْرُ، وقال العلمانيون: له الخلق، ولنا الأَمْر!


أمَّا المؤمنون المسلمون فعقيدتهم: "له الخلْق، ولَه الأمر"، ونحن عبيد له جل جلاله لذا يراقب المسلم أفعاله في الحياة الدنيا ملتزما بشرع الله كما نزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ولو كان الإنسان هو من يشرّع ويقرر ما كان لمعنى المراقبة أهمية، ولا وجود، لكنها عقيدة الإسلام التي تناقض عقائد الكفر، ومنها العلمانية التي يروج لها بأنها لا تخالف الإسلام أو هي الحل، والله تعالى يقول: (ألا له الخلق والأمر) إنَّ الله تعالى خلق الله الخلق لعبادته، والعبادة قائمة على أمرين: أمر ونهي، قال تعالى: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى). (القيامة 36)، قال الشافعي رحمه الله: "لا يؤمر ولا ينهى، ولولا مراقبة العبد لربه لما تأتى له فعل الأمر، والكف عن المحرمات.


ثالثًا: إن إقدام الشخص على الفعل، وإحجامه عنه إنما يكون حسب تصور الحياة عنده، فيقيس الأعمال بمقياس تصور الحياة، فالغربيون جميعًا يقدمون على الفعل ويحجمون عنه بمقياس النفعية لأنه تصور ونظرة ومقياس الأعمال عندهم، فتصور الحياة في نظر الإسلام هو الحلال والحرام، إذ إن مقياس الأعمال هو الحلال والحرام. فما كان حلالًا فعلناه، وما كان حرامًا اجتنبناه، قال الله تعالى: (وَمَا آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا). وقال: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله). وقال: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تتعدوها».
وقد أكد القرآن هذا المعنى بشكل جازم في نفيه الإيمان الكامل ممن يحكم غير الرسول أي غير شريعة الإسلام باعتبارها رسالة الرسول، ونعي على الذين يريدون أن يتحاكموا لغير ما جاء به الرسول من شريعة الإسلام، وجعل احتكامهم لغيره احتكاما إلى الطاغوت وذمهم على ذلك.


فقد أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المسلمين فأنزل الله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا). الآية، مما يدل بشكل صريح على أن الرجوع إلى غير الأحكام الشرعية يعتبر رجوعًا إلى الطاغوت، وقد قال عنه الله: (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا).
ولذلك يحرم على المسلم أن يـُحَكِّمَ في أفعاله كلها غير الحكم الشرعي، فيحرم عليه أن يـُحَكِّمَ القوانين، كما يحرم عليه أن يـُحَكِّمَ العادات والتقاليد والأعراف، ويحرم عليه أن يـُحَكِّمَ العقل، كما يحرم عليه أن يـُحَكِّمَ المصلحة؛ لأن الله عيّن الجهة التي يجب أن يـُحَكِّمَها المسلم في أفعاله، وهي ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتبر التحاكم لغيره تحاكمًا إلى الطاغوت، وقد أمرنا أن نكفر به لا أن نتحاكم إليه أو أن نسلم به، ولذلك كان التحاكم إلى المصلحة أو العقل أو الأعراف والعادات كالتحاكم إلى القوانين وسائر أحكام الكفر، كله تحاكم إلى الطاغوت.


أيها المسلمون:
وقد ورد أن امرأة راودها رجل عن نفسها فأبت فأكرهها، فأرادت أن تعظه بما يردعه عن فعل الحرام وهي مراقبة الله تعالى، وهو وإن كان لم يجن هذه الجناية إلا لأنه لم يراقب الله في طلبه والاستعداد للحرام، ونسي أن الله يراه، وبعد الإجبار قالت له: أغلق جميع الأبواب، فأغلق جميع الأبواب المحسوسة التي بينه وبين الناس - الأبواب البشرية - ونسي أن الباب الذي بينه وبين الله مفتوح ومكشوف، فقالت له: هل أغلقت جميع الأبواب؟ قال: لم يبق باب إلا وأغلقته، فقالت له: بقي باب مفتوح لم تغلقه! قال: أي باب؟! قالت: بقي الباب الذي بيننا وبين الله مفتوح، ألا تخاف الله؟ .. فارتعد وخاف ووجل فتركها خوفًا من الله الذي يراه حيث ما كان!!
هذه المراقبة هي المانع من ترك الواجبات، وفعل الحرام حيث يستحيي المسلم من ترك أمر الله، وفعل معصيته. ورد في الحديث عن سعيد بن يزيد الأزدي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: «أوصيك أن تستحيي من الله عز وجل كما تستحيي من الرجل الصالح من قومك ». (رواه أحمد)


وأخيرا نقول: في الوقت الذي يجب على المسلمين مراقبة أفعالهم وتصرفاتهم وأقوالهم، فإننا نجد الحكام في بلادنا، والمسلطين على رقاب المسلمين، يراقبون الغرب في أفعالهم إرضاء لهم، بل تجدهم السباقين لتنفيذ مخططات الغرب الكافر ضد الأمة الإسلامية، وضد عقيدة هذه الأمة، وأفكار الإسلام، بل يتسابقون في خدمة الكفر ومفاهيمه، فيقتلون ويسجنون كل حملة دعوة الإسلام، وكل من يدعو لمراقبة الله تعالى والالتزام بأمره فقط، تحت قوانين الإرهاب والسجن والقتل كما هو ديدن الكفر دائمًا، ولكن أنى لكم تحقيق مرادهم، وفي هذه الأمة فئة مخلصة تقوم على أمر الله قولًا وعملًا حتى يأتي نصر الله. قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ).


 

     
16 من ذي الحجة 1438
الموافق  2017/09/07م
   
     
 
  الكتب المزيد
 
  • الدولـــة الإسلاميـــة (نسخة محدثة بتاريخ 2014/12/04م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند فتح الملف) الطبعة السابعة (معتمدة) 1423ه... المزيد
  • من مقومات النفسية الإسلامية الطبعـة الأولى 1425هـ - 2004 م   (نسخة محدثة بتاريخ 2014/10/21م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند فتح الم... المزيد
  • النظام الاقتصادي في الإسلام الطبعة السادسة (طبعة معتمدة) 1425 هـ - 2004م   (نسخة محدثة بتاريخ 2014/01/04م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة... المزيد
  • النظام الاجتماعي في الإسلام الطبعة الرابعة 1424هـ - 2003م (معتمدة)   (نسخة محدثة بتاريخ 2013/09/10م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند ف... المزيد
  • نظــــام الإســـلام   الطبعة السادسة (طبعة معتمدة) 1422هـ - 2001م   (نسخة محدثة بتاريخ 2012/11/22م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الص... المزيد