7 من ذي القعدة 1445    الموافق   Apr 26, 2024

بسم الله الرحمن الرحيم




نداءات القرآن للمؤمنين
تحريم الفرار يوم الزحف

قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ). (الأنفال 15) قَالَ ابنُ كَثِيرٍ فِي تَفسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: "يَقُول تَعَالَى مُتَوَعِّدًا عَلَى الْفِرَار مِنْ الزَّحْف بِالنَّارِ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا) أَيْ إِذا تَقَارَبْتُمْ مِنْهُمْ وَدَنَوْتُمْ إِلَيْهِمْ. (فَلَا تُوَلُّوهُمْ الْأَدْبَار). أَيْ لَا تَفِرُّوا وَتَتْرُكُوا أَصْحَابكُمْ".


وَفِي تَفسِيرِ القُرطُبِيِّ: "قَوْله تَعَالَى: (زَحْفًا) الزَّحْف الدُّنُوّ قَلِيلًا قَلِيلًا. وَأَصْله الِانْدِفَاع عَلَى الْأَلْيَة; ثُمَّ سُمِّيَ كُلّ مَاشٍ فِي الْحَرْب إِلَى آخَرَ زَاحِفًا. وَالتَّزَاحُف: التَّدَانِي وَالتَّقَارُب; يُقَال: زَحَفَ إِلَى الْعَدُوّ زَحْفًا. وَأَزْحَفَ الْقَوْم، أَيْ مَشَى بَعْضهمْ إِلَى بَعْض. وَمِنْهُ زِحَاف الشِّعْر، وَهُوَ أَنْ يَسْقُط بَيْن الْحَرْفَيْنِ حَرْف فَيَزْحَف أَحَدهمَا إِلَى الْآخَر. يَقُول: إِذَا تَدَانَيْتُمْ وَتَعَايَنْتُمْ فَلَا تَفِرُّوا عَنْهُمْ، وَلَا تُعْطُوهُمْ أَدْبَارَكُمْ. حَرَّمَ اللَّه ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حِين فَرَضَ عَلَيْهِمْ الْجِهَاد وَقِتَال الْكُفَّار".


قَالَ اِبْن عَطِيَّة: وَالْأَدْبَار جَمْع دُبُر. وَالْعِبَارَة بِالدُّبُرِ فِي هَذِهِ الْآيَة مُتَمَكِّنَة الْفَصَاحَة; لِأَنَّهَا بَشِعَة عَلَى الْفَارّ، ذَامَّة لَهُ. أَمَرَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَة أَلَّا يُوَلِّيَ الْمُؤْمِنُونَ أَمَامَ الْكُفَّار. وَالْفِرَار كَبِيرَة مُوبِقَة بِظَاهِرِ الْقُرْآن، وَإِجْمَاع أَكْثَر الْأَئِمَّة. وَقَالَتْ فِرْقَة مِنْهُمْ: "إِنَّهُ يُرَاعَى الضَّعْف وَالْقُوَّة وَالْعُدَّة; فَيَجُوز عَلَى قَوْلهمْ أَنْ يَفِرَّ مِائَة فَارِس مِنْ مِائَة فَارِس إِذَا عَلِمُوا أَنَّ مَا عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ النَّجْدَة وَالْبَسَالَة ضِعْف مَا عِنْدَهُمْ. وَأَمَّا عَلَى قَوْل الْجُمْهُور فَلَا يَحِلّ فِرَار مِائَة إِلَّا مِمَّا زَادَ عَلَى، الْمِائَتَيْنِ; فَمَهْمَا كَانَ فِي مُقَابَلَة مُسْلِم أَكْثَر مِنْ اِثْنَيْنِ فَيَجُوز الِانْهِزَام، وَالصَّبْر أَحْسَن.


وَقَدْ وَقَفَ جَيْش مُؤْتَة وَهُمْ ثَلَاثَة آلَاف فِي مُقَابَلَة مِائَتَيْ أَلْف، مِنْهُمْ مِائَة أَلْف مِنْ الرُّوم، وَمِائَة أَلْف مِنْ الْمُسْتَعْرِبَة مِنْ لَخْم وَجُذَام. قُلْت: وَوَقَعَ فِي تَارِيخ فَتْح الْأَنْدَلُس أَنَّ طَارِقًا مَوْلَى مُوسَى بْن نُصَيْر سَارَ فِي أَلْفٍ وَسَبْعمِائَةِ رَجُل إِلَى الْأَنْدَلُس، وَذَلِكَ فِي رَجَب سَنَة ثَلَاث وَتِسْعِينَ مِنْ الْهِجْرَة; فَالْتَقَى وَمَلِك الْأَنْدَلُس لذريق وَكَانَ فِي سَبْعِينَ أَلْف عَنَان; فَزَحَفَ إِلَيْهِ طَارِق، وَصَبَرَ لَهُ فَهَزَمَ اللَّه الطَّاغِيَة لذريق، وَكَانَ الْفَتْح.


وَاخْتَلَفَ النَّاس هَلْ الْفِرَار يَوْم الزَّحْف مَخْصُوص بِيَوْمِ بَدْر أَمْ عَامّ فِي الزُّحُوف كُلّهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة؟ فَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوص بِيَوْمِ بَدْر، وَبِهِ قَالَ نَافِع وَالْحَسَن وَقَتَادَة وَيَزِيد بْن أَبِي حَبِيب وَالضَّحَّاك، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَة. وَأَنَّ ذَلِكَ خَاصّ بِأَهْلِ بَدْر ... وَقَالَ الْجُمْهُور مِنْ الْعُلَمَاء: إِنَّمَا ذَلِكَ إِشَارَة إِلَى يَوْم الزَّحْفِ الَّذِي يَتَضَمَّنهُ قَوْله تَعَالَى: (إِذَا لَقِيتُمْ). وَحُكْم الْآيَة بَاقٍ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة بِشَرْطِ الضِّعْف الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّه تَعَالَى فِي آيَة أُخْرَى، وَلَيْسَ فِي الْآيَة نَسْخ. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ الْقِتَال وَانْقِضَاء الْحَرْب وَذَهَاب الْيَوْم

بِمَا فِيهِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَكْثَر الْعُلَمَاء.
وَفِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اِجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَات - وَفِيهِ - وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْف" وَهَذَا نَصّ فِي الْمَسْأَلَة. وَأَمَّا يَوْم أُحُد فَإِنَّمَا فَرَّ النَّاس مِنْ أَكْثَر مِنْ ضِعْفِهِمْ وَمَعَ ذَلِكَ عُنِّفُوا. وَأَمَّا يَوْم حُنَيْنٍ فَكَذَلِكَ مَنْ فَرَّ إِنَّمَا اِنْكَشَفَ عَنْ الْكَثْرَة. قَالَ اِبْن الْقَاسِم: "لَا تَجُوز شَهَادَة مَنْ فَرَّ مِنْ الزَّحْف، وَلَا يَجُوز لَهُمْ الْفِرَار وَإِنْ فَرَّ إِمَامُهُمْ".


وَرَحِمَ اللهُ الـمَلِكَ الشَّاعِرَ الـمُعتَمِدَ بْنَ عَبَّاد الَّذِي أرَادَ حُرَّاسُهُ أَنْ يُجَنِّبُوهُ الهَلَاكَ الأَكِيدَ، فَطَلَبُوا إِلَيهِ أَنْ يُحْسِنَ مُوَادَعَةَ العَدُوِّ حَتَّى تَنْكَسِرَ حِدَّةُ الهُجُومِ، فَأَبَتْ لَهُ مُرُوءَتُهُ وَحَمِيَّتُهُ، وَنَفْسُهُ الَّتِي تَعَافُ العَارَ حَتَّى كَأَنَّمَا هُوَ الكُفْرُ أَوْ دُونَهُ الكُفْرُ يَومَ الرَّوعِ، وَأَبَتْ لَهُ ذِكْرَيَاتُ النَّصْرِ، وَمَوَارِيثُ الجُدُودِ. أَمِنَ الـمَوتِ يَفِرُّ، وَقَدْ كَانَ يَعشَقُهُ وَيَطلُبُهُ وَيَسْعَى إِلَيهِ، وَلَا يُفَكِّرُ إِذَا خَرَجَ لِلقِتَالِ فِي أَهْلٍ وَلَا وَلَدٍ؟؟ وَلَكِنَّهُ كَانَ يُرِيدُ
مَوتًا شَرِيفًا، فَأَنْشَدَ يَقُولُ:


قَالُوا الخُضُـــــــــوعُ سِيَاسَــــةٌ ... فَليَبْدُ مِنَكَ لَهُـمْ خُضُـــوعْ
وَأَلَذُّ مِنْ طَعْــــمِ الخُضُــــوعِ ... عَلَى فَمِي السُّـــمُّ النَّقِيـــعْ
مَا سِرْتُ قَطُّ إِلَى القِتَالِ ... وَكَانَ مِنْ أَمَلِي الرُّجُـــــوعْ
شِيَــــــمُ الأُولَى أَنَا مِنْهُــــــــمْ ... وَالأَصْـــلُ تَتْبَعُـــهُ الفُـــــرُوعْ


وَفِي الخِتَامِ نَدْعُو فَنَقُول:


اللَّهُمَّ لَولَا أَنْتَ مَا اهتَدَينَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَـــــــــا وَلَا صَلَّينَــــــا
فَأَنْزِلَـــــــــنْ سَكِينَــــــــــةً عَلَينَـــــــــا ... وَثَبِّـــتِ الأَقْــــدَامَ إِنْ لَاقَينـَــا

اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا بِالقَولِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفِي الآخِرَةِ، وَيَومَ يَقُومُ الأَشْهَادُ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَنَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَنَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَنَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَلِسَانًا صَادِقًا، وَرِزْقًا حَلَالًا طَيِّبًا، وَنَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَنسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ.


كتبه للمكتب الإعلامي لحزب التحرير - ولاية الأردن
الأستاذ: محمد النادي

 

     
12 من ذي القعدة 1438
الموافق  2017/08/04م
   
     
 
  الكتب المزيد
 
  • الدولـــة الإسلاميـــة (نسخة محدثة بتاريخ 2014/12/04م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند فتح الملف) الطبعة السابعة (معتمدة) 1423ه... المزيد
  • من مقومات النفسية الإسلامية الطبعـة الأولى 1425هـ - 2004 م   (نسخة محدثة بتاريخ 2014/10/21م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند فتح الم... المزيد
  • النظام الاقتصادي في الإسلام الطبعة السادسة (طبعة معتمدة) 1425 هـ - 2004م   (نسخة محدثة بتاريخ 2014/01/04م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة... المزيد
  • النظام الاجتماعي في الإسلام الطبعة الرابعة 1424هـ - 2003م (معتمدة)   (نسخة محدثة بتاريخ 2013/09/10م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند ف... المزيد
  • نظــــام الإســـلام   الطبعة السادسة (طبعة معتمدة) 1422هـ - 2001م   (نسخة محدثة بتاريخ 2012/11/22م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الص... المزيد