1 من ذي القعدة 1445    الموافق   Apr 20, 2024

بسم الله الرحمن الرحيم




وقفات مع آية من كتاب الله
خيرية الأمة وحيويتها إلى يوم القيامة


قال تعالى ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.


يشكل على بعض الإخوة بهذه الآية الاستدلال بها وسر التعبير فيها بقوله تعالى: (كنتم) ظنًا منهم حتمية استخدام تعبير (كان للماضي) فقط بعيدًا عن فهم أساليب اللغة واستخدامها في كتاب الله تعالى، ولتوضيح هذا الأمر نقول بعد التوكل عليه:


لفظة "كان" لا تدل دائمًا على الماضي المنقطع، وإن كان هذا هو المشهور الغالب في استعمالها، وقد جاء ذِكرها في كلام العرب، وفي كتاب الله تعالى بمعنى: "لم يزل"، ومنه قوله تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا)، فهل انقطعت عداوة الشيطان للإنسان، وكانت في زمن مضى ثم انتهى؟ أم أنها كانت ولا زالت وستبقى، وهي تدل على الاستمرارية لا الانقطاع؛ لقوله تعالى عن توعد الشيطان: (قال فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِين)؟ ومنه قوله تعالى: (وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً) فالإنسان هو هو يتعجل ما يحب ويهوى، هكذا هو وسيبقى.


وتأتي بمعنى الحال نحو (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ...) روى البخاري في صحيحه (6/127) عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ: "إِنِّي أَجِدُ فِي القُرْآنِ أَشْيَاءَ تَخْتَلِفُ عَلَيَّ .... وَقَالَ: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا). (النساء: 96)، (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا). (النساء: 56)، (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا). (النساء: 58) فَكَأَنَّهُ كَانَ ثُمَّ مَضَى؟". فأجاب ابن عباس رضي الله عنه عن مسائله، فقال فيها: "(وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا). (النساء: 96) سَمَّى نَفْسَهُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ؛ أَيْ لَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا إِلَّا أَصَابَ بِهِ الَّذِي أَرَادَ، فَلاَ يَخْتَلِفْ عَلَيْكَ القُرْآنُ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ". فـ (كان) هنا لا تفيد الزمان المنقطع نهائيًا، وهي أمة الخير والشهادة والتغيير والنصر والقيادة والريادة والسؤدد.

فدلالة (كان) هنا ليست للماضي، فهي مسلوبة الزمن في هذه السياق، والمراد بها الحال ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا. للتدليل على ما ذهبنا إليه نذكِّر بما يلي:


أولا: إن الخطاب في الآية هو للأمة بصفتها أمة، وليس لفترة زمنية فيها على تفاوت في الخيرية في مراحلها كمثل حديث: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ..." وخير كيان سياسي للأمة هو دولة الرسول صلى الله عليه وسلم، ودولة الخلفاء الراشدين، ثم تنتقل من ملك عضوض إلى ملك جبري لتعود خلافة راشدة على منهاج النبوة. وأمة الإسلام أمة عالمية ليست عرقية، طائفية، عربية، وقتية، زمانية أو مكانية لأن إسلامها عالمي لم يأت لقوم دون قوم، ولا لزمن دون زمن؛ فهو للناس كافة .


ثانيًا: ما ترتب على الآية من وصف الخيرية، والإيمان بالله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس خاصًا بالصحابة، ولا بزمن معين، وإلا نكون بذلك نسخنا وجوب الإيمان بالله وعطلناه، ونسخنا وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وكان وجوبًا مؤقتًا لزمن أو حالة معينة، ومن المقطوع به بداهة أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عامٌ وليس مخصصًا بزمن ولا مكان .
قال السيوطي: "استدل -بالآية- على أن هذه الأمة أفضل من غيرها، وعلى أن الصحابة أفضل الأمم لأنهم المخاطبون بها حال النزول، وعلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل الأنبياء لأن شرف الأمة بشرف نبيها"(20).
وقال الشوكاني: "وفي- الآية - دليل على أن هذه الأمة الإسلامية خير الأمم على الإطلاق، وأن هذه الخيرية مشتركة ما بين أول هذه الأمة، وآخرها بالنسبة إلى غيرها من الأمم، وإن كانت متفاضلة في ذات بينها. كما ورد في فضل الصحابة على غيرهم


ثالثًا: هذه الخيرية في الأمة يُراد لها أن تُقتل وأن تموت بحيث تفقد الأمة ثقتها بنفسها؛ فتصبح جثة هامدة لا قيمة لها بين الأمم، فلا تسعى للتغيير، ولا للقيادة العالمية. هذا المخطط الذي يقوده الكفر وعملاؤهم وأذنابهم وأدواتهم. ومما يزعج ويؤلم حديث بعض القوم الذين اعتزلوا (معتزلة اليوم وهم معتزلة السلوك) الذين ملأ الإحباط قلوبهم جُبنًا ويأسًا؛ لأن العزلة هي مزيج من اليأس والجبن في جلد الذات، وخطاب الإهلاك للأمة.


رابعا: أذكرهم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: »إذا قال الرجل هلك الناس فهو أَهْلَكُهُمْ« . أخرجه مسلم. جاء في رواية بلفظ آخر: (فَهُوَ أَهْلَكَهُم)، يعني هناك روايتان اثنتان: (أَهْلَكُهُمْ، وَأَهْلَكَهُمْ)، الرواية الأولى: (فَهُوَ أهلكُهُم): أي أشدُّهم هلاكًا، والرواية الثانية: (فَهُوَ أَهْلَكَهُمْ) أي تسبَّب في إهلاكهم بسبب حديثه وخطابه، والإثم المترتب عليه من هذا الحديث، والذم له خاصة على رواية الضم (أهْلَكُهُم).


خامسًا: لعلي أضرب مثلًا في عظمة هذه الأمة وخيرتها، وأنها أمة البقاء والنصر، إذ لو قُدِّرَ لهذه الأمة أن تموت لماتت يوم الخندق. إِنَّ معركة الأحزاب كانت معركة مصير للرسالة والدولة والأمة، قال تعالى يصور لنا المشهد: (إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا). لقد حفظ الله تلك العصبة في يوم محنتها .. وخاب الكفار وخسروا .. ودارت الدائرة على أعداء الله: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ، وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلبَشَرِ). نعم هي ذكرى للبشر جميعًا، وبالذات لنا نحن المسلمين.
سادسا: إن حاضر الأمة اليوم رغم مرارته، يجب ألا يقودنا إلى اليأس والقنوط والإحباط؛ لأن الأعداء يتمنون أن يظفروا منا بهذا الأمر، ليقتلوا فينا روح التحدي، وإرادة التغيير، هم يريدون منا أن نسلّم بالأمر الواقع تحت هيمنة الغرب الكافر المجرم .


رغم نعيق المستكبرين، وخطاب المثبطين، وغطرسة الظالمين، إلا أن اليقين يزداد رسوخًا بعون الله، وثقة في موعود رب العالمين: (وَكَانَ حَقًّا عَلَينَا نَصْرُ الْمُؤمِنِينَ) "ولن يُبقي الله بيت مدر، ولا وبر إِلَّا أدخله الله الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل عزًا يعز الله به الإسلام وأهله، وذلا يذل الله به الكفر وأهله". (وَيَومَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤمِنُونَ بِنَصْرِ الله) فالأمل الأمل، والعمل العمل يا أمة الأمل والعمل، ولن يطول ليل قد اقترب نهاره، فالصبر والعمل: (فَإِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا).


كتبه للمكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية الأردن
الأستاذ/ حسن حمدان

 

     
24 من شوال 1438
الموافق  2017/07/18م
   
     
 
  الكتب المزيد
 
  • الدولـــة الإسلاميـــة (نسخة محدثة بتاريخ 2014/12/04م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند فتح الملف) الطبعة السابعة (معتمدة) 1423ه... المزيد
  • من مقومات النفسية الإسلامية الطبعـة الأولى 1425هـ - 2004 م   (نسخة محدثة بتاريخ 2014/10/21م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند فتح الم... المزيد
  • النظام الاقتصادي في الإسلام الطبعة السادسة (طبعة معتمدة) 1425 هـ - 2004م   (نسخة محدثة بتاريخ 2014/01/04م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة... المزيد
  • النظام الاجتماعي في الإسلام الطبعة الرابعة 1424هـ - 2003م (معتمدة)   (نسخة محدثة بتاريخ 2013/09/10م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند ف... المزيد
  • نظــــام الإســـلام   الطبعة السادسة (طبعة معتمدة) 1422هـ - 2001م   (نسخة محدثة بتاريخ 2012/11/22م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الص... المزيد