يُخْبِرُ اللهُ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ أَنَّهُ سَيَبتَلِيهِمْ بِشَيءٍ مِنَ الصَّيدِ تَنَالُهُ أَيدِيهِمْ. عَنْ اِبْن عَبَّاسٍ قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّه بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْد تَنَالهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحكُمْ). قَالَ: هُوَ الضَّعِيفُ مِنَ الصَّيْدِ وَصَغِيرِهِ يَبْتَلِي اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ فِي إِحْرَامِهِمْ حَتَّى لَوْ شَاءُوا لَتَنَاوَلُوهُ بِأَيْدِيهِمْ فَنَهَاهُمْ اللَّه أَنْ يَقْرَبُوهُ. وَقَالَ مُجَاهِد: (تَنَالهُ أَيْدِيكُمْ) يَعْنِي صِغَارَ الصَّيْدِ وَفِرَاخَهُ وَقَولُهُ:(وَرِمَاحكُمْ) يَعْنِي كِبَارَهُ، وَقَالَ مُقَاتِل بْن حَيَّان: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَة فِي عُمْرَة الْحُدَيْبِيَة، فَكَانَتْ الْوَحْشُ وَالطَّيْرُ وَالصَّيْدُ تَغْشَاهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَمْ يَرَوْا مِثْله قَطُّ فِيمَا خَلَا، فَنَهَاهُمْ اللَّه عَنْ قَتْله وَهُمْ مُحْرِمُونَ، وَقَولُهُ: (لِيَعْلَم اللَّه مَنْ يَخَافهُ بِالْغَيْبِ) يَعْنِي أَنَّهُ تَعَالَى يَبْتَلِيهِمْ بِالصَّيْدِ، يَغْشَاهُمْ فِي رِحَالهمْ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ أَخْذه بِالْأَيْدِي وَالرِّمَاح، سِرًّا وَجَهْرًا ؛لِتَظْهَر طَاعَةُ مَنْ يُطِيعُ مِنْهُمْ فِي سِرِّهِ أَوْ جَهْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَة وَأَجْر كَبِير). وَقَوْلُهُ هَهُنَا: (فَمَنْ اِعْتَدَى بَعْد ذَلِكَ) قَالَ السُّدِّيّ وَغَيْره: يَعْنِي بَعْد هَذَا الْإِعْلَامِ وَالْإِنْذَارِ وَالتَّقَدُّمِ (فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أَيْ لِمُخَالَفَتِهِ أَمْرَ اللَّهِ وَشَرْعَهُ.
قَالَ الطَّبَرِيُّ فِي تَفسِيرِهِ: الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّه بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْد تَنَالهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحكُمْ). يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: يَا أَيّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ: (لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّه بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْد) يَقُولُ: لَيَخْتَبِرَنَّكُم اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْد، يَعْنِي: بِبَعْضِ الصَّيْدِ. وَإِنَّمَا أَخْبَرَهُمْ تَعَالَى ذِكْره أَنَّهُ يَبْلُوهُمْ بِشَيْءٍ; لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُهُمْ بِصَيْدِ الْبَحْر، وَإِنَّمَا اِبْتَلَاهُمْ بِصَيْدِ الْبَرِّ. وَقَوْله: (تَنَالهُ أَيْدِيكُمْ) فَإِنَّهُ يَعْنِي: إِمَّا بِالْيَدِ، كَالْبَيْضِ وَالْفِرَاخ; وَإِمَّا بِإِصَابَةِ النَّبْل وَالرِّمَاح، وَذَلِكَ كَالْحُمُرِ وَالْبَقَر وَالظِّبَاء، فَيَمْتَحِنكُمْ بِهِ فِي حَالِ إِحْرَامكُمْ بِعُمْرَتِكُمْ أَوْ بِحَجِّكُمْ. وَبِنَحْوِ ذَلِكَ قَالَتْ جَمَاعَة مِنْ أَهْل التَّأْوِيل. عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِد، فِي قَوْله: (لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّه بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْد تَنَالهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحكُمْ) قَالَ: (أَيْدِيكُمْ) تَنَالُ صِغَارَ الصَّيْدِ، أَخْذُ الْفِرَاخ وَالْبَيْض. وَ (رِمَاحُكُمْ) تَنَالُ كِبَارَ الصَّيْد. وعَنْ مُجَاهِد، فِي قَوْله: (تَنَالهُ أَيْدِيكُمْ) قَالَ: مَا لَا يَسْتَطِيع أَنْ يَفِرّ مِنْ الصَّيْد. عَنْ اِبْن عَبَّاس قَوْله: (تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ) قَالَ: هُوَ الضَّعِيفُ مِنْ الصَّيْدِ وَصَغِيرُهُ يَبْتَلِي اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عِبَادَهُ فِي إِحْرَامِهِمْ حَتَّى لَوْ شَاءُوا نَالُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، فَنَهَاهُمْ اللَّه أَنْ يَقْرَبُوهُ. الْقَوْلُ فِي تَأْوِيل قَوْلِهِ تَعَالَى: (لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ) يَعْنِي تَعَالَى ذِكْره: لَيَخْتَبِرَنَّكُم اللَّه أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الصَّيْدِ فِي حَالِ إِحْرَامكُمْ، كَيْ يَعْلَمَ أَهْلُ طَاعَةِ اللَّهِ وَالْإِيمَان بِهِ، وَالْمُنْتَهُونَ إِلَى حُدُودِهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، مَنِ الَّذِي يَخَافُ اللَّهَ، فَيَتَّقِيَ مَا نَهَاهُ عَنْهُ وَيَجْتَنِبَهُ خَوْفَ عِقَابِهِ بِالْغَيْبِ، بِمَعْنَى: فِي الدُّنْيَا بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ. وَالْغَيْبُ إِنَّمَا هُوَ مَصْدَرُ قَوْلِ الْقَائِلِ: غَابَ عَنِّي هَذَا الْأَمْر فَهُوَ يَغِيبُ غَيْبًا وَغَيْبَةً، وَبِمَعْنَى أَنَّ مَا لَمْ يُعَايَنْ، فَإِنَّ الْعَرَب تُسَمِّيه غَيْبًا. فَتَأْوِيل الْكَلَام إِذًا: لِيَعْلَمَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ مَنْ يَخَافُ اللَّهَ فَيَتَّقِيَ مَحَارِمَهُ الَّتِي حَرَّمَهَا عَلَيْهِ مِنْ الصَّيْد وَغَيْره، بِحَيْثُ لَا يَرَاهُ وَلَا يُعَايِنُهُ. وَأَمَّا قَوْله: (فَمَنْ اِعْتَدَى بَعْد ذَلِكَ) فَإِنَّهُ يَعْنِي: فَمَنْ تَجَاوَزَ حَدَّ اللَّهِ الَّذِي حَدَّهُ لَهُ بَعْد اِبْتِلَائِهِ بِتَحْرِيمِ الصَّيْد عَلَيْهِ وَهُوَ حَرَام، فَاسْتَحَلَّ مَا حَرَّمَ اللَّه عَلَيْهِ مِنْهُ بِأَخْذِهِ وَقَتْلِهِ; (فَلَهُ عَذَابٌ) مِنَ اللَّهِ (أَلِيمٌ) يَعْنِي: مُؤْلِمٌ مُوجِعٌ.
لَقَدِ التَزَمَ سَلَفَنُا الصَّالِحُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رضي الله عنهم وَأَرضَاهُمْ أَجْمَعِينَ التَزَمُوا بِهَدْيِ القُرآنِ الكَرِيمِ، وَسُنَّةِ الـمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم فَكَانُوا وَقَّافِينَ عِندَ حُدُودِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَلَمْ يَتَعَدَّوهَا قَيدَ أُنمُلَةٍ، فَاللهُ قَد هَدَّدَ مَنْ يَتَعَدَّى حُدُودَهُ بِالعَذَابِ الأَلِيمِ يَومَ القِيَامَةِ، فَقَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ: (فَمَنْ اِعْتَدَى بَعْد ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ)؛ لِذَلِكَ حَرِصُوا عَلَى أَنْ يَكُونُوا أَبْعَدَ النَّاسِ عَنِ الحَرَامِ، وَلَو أَدَّى بِهِمْ حِرْصُهُمْ إِلَى أَنْ يَخْسَرُوا حَيَاتَهُمْ، فَهَذَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه الخَلِيفَةُ الأَوَّلُ لِلْمُسْلِمِينَ، يَأْتِيهِ خَادِمُهُ بِطَبَقٍ فِيهِ حَبَّاتٌ مِنَ التَّمْرِ، وَيَدعُو أَبَا بَكْرٍ لِأَنْ يَأْكُلَ مِنهَا، فَيَمُدُّ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ إِلَى الطَّبَقِ فَيَتَنَاوَلَ حَبَّةً وَاحِدَةً مِنهُ وَيَضَعُهَا فِي فِيهِ وَيَأكُلُهَا. بَعدَ ذَلِكَ يَسأَلُهُ خَادِمُهُ: أَتَدْرِي يَا أبَا بَكْرٍ مِنْ أَينَ هَذَا التَّمْرُ؟؟ فَيُجِيبُهُ أَبُو أَنْ لَا. يَسْأَلَهُ أَبُو بَكْرٍ: فَمِنْ أَينَ أَتَيتَ بِهَذَا التَّمْرِ؟؟ فَيَقُولُ الخَادِمُ: "كُنْتُ في جَاهِلِيَّتِي قَدْ تَكَهَّنْتُ وتَنَبَّأْتُ لِرَجُلٍ أَنَّهُ سَيُرزَقُ بِمَولُودٍ ذَكَر، وَاليَومَ قَدْ وَضَعَتْ زَوجَتَهُ موَلُودًا ذَكرًا، فَأَتَانِي بِهَذَا التَّمْرِ الَّذِي أَكَلْتَ مِنهُ". فَمَا كَانَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ إِلاَّ أَنْ وَضَعَ أُصْبُعَهُ فِي فِيهِ أي فِي فَمِهِ، وَقَاءَ جَمِيعَ مَا فِي بَطْنِهِ، فَقَالَ لَهُ خَادِمُهُ: كُلُّ هَذَا مِنْ أَجْلِ تَمْرَة؟؟ إِنَّمَا هِيَ تَمْرَةٌ وَاحِدَةٌ!! فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: "وَاللهِ لَو لَمْ تَخْرُجُ إِلَّا بِخُرُوجِ رُوحِي لَأَخْرَجْتُهَا، مَا نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ!!".
أَجَلْ هَكَذَا كَانَ سَلَفَنُا الصَّالِحُ وَقَّافِينَ عِندَ حُدُودِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أَمَّا فِي عَصْرِنَا هَذَا فِي ظِلِّ أَنظِمَةِ الطَّوَاغِيتِ الَّذِينَ يَحْكُمُونَ بِغَيرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ بَعْدَ هَدْمِ دَولَةِ الخِلَافَةِ، وَغِيَابِ خَلِيفَةِ الْمُسلِمِينَ، ذَلِكَ الرَّاعِي الَّذِي يَسُوسُ الرَّعِيَّةَ بِأَحْكَامِ الإِسْلَامِ، وَيَحْكُمُهُمْ بِشَرِيعَةِ الرَّحْمَنِ، فَحَدِّثْ وَلَا حَرَجَ عَنِ الاعْتِدَاءِ عَلَى حُدُودِ اللهِ جَلَّ فِي عُلَاهُ!! لقد عطلت شريعة الله تَعطِيلًا شِبْهَ كَامِلٍ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا بَعْضَ الأَحكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالأَحْوَالِ الشَّخْصِيَّةِ مِثْلَ أَحْكَامِ الزَّوَاجِ وَالطَّلَاقِ وَالإِرْثِ. بَلْ حَتَّى هَذِهِ الأَحْكَامَ لَمْ تُنَفَّذْ، وَلَمْ تُطَبَّقْ عَلَى الوَجْهِ الصَّحِيحِ الَّذِي يُرضِي رَبَّ العَالَمِينَ!!
اللَّهُمَّ أَرِدْ لَنَا إِرَادَةَ الاستِخْلَافِ وَالتَّمْكِينِ فِي الأَرْضِ، وَأَرِدْ لَنَا أَيَّامَ العِزَّةِ وَالرِّيَادَةِ، وَأَرِدْ لَنَا قِيَادَةَ سَفِينَةِ الوُجُودِ. اللَّهُمَّ وَاكْتُبْ لَنَا مِيثَاقَ عِزَّةٍ وَتَمْكِينٍ، وَوَثِّقْ لَنَا عَهْدَ نَصْرٍ وَعِزٍّ وَتَأْيِيدٍ، وَارْزُقْنَا مُبَايَعَةَ خَلِيفَةٍ كَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه يَخَافُكَ وَيَتَّقِيكَ، وَيُقِيمُ فِينَا شَرِيعَتَكَ، وَيَحكُمُنَا بِكِتَابِكَ، وَسُنَّةَ نَبِيِّكَ، وَيَجْعَلُنَا وَقَّافِينَ عِندَ حُدُودِكَ كَمَا كَانَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ؛ فَنَسْعَدَ كَمَا سَعِدُوا فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، إِنَّكَ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ ... آمِينَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ!!
كتبه للمكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية الأردن الأستاذ/ محمد النادي
|