6 من ذي القعدة 1445    الموافق   Apr 25, 2024

بسم الله الرحمن الرحيم




النظام الدولي العالمي ... والأزمة المالية العالمية


النظام الدولي هو النظام الذي تفرضه الدولة الأولى عالميًا على بقية الدول سواء بالقوة العسكرية أو الاقتصادية أو بقوة المنُتَصِر، وعليه تستطيع فرض ونشر المبدأ الذي تعتنقه تلك الدولة، ومثاله اليوم ما تقوم به أمريكا، وما كانت تقوم به سابقًا بالتوافق مع الاتحاد السوفياتي، وما كانت تقوم به دولة الخلافة الاسلامية العثمانية.

فالدولة الأولى عالميًا عادةً تسطيع أن تفرض إرادتها إما بالتوافق لصالحها، وأشهر توافق هو ذلك التوافق مع الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية حيث تم تقسيم العالم إلى مواقع نفوذ لكلا الدولتين، وبقي الأمر كذلك حتى ضعف الاتحاد السوفياتي ومن ثم تفكك، فحاولت أمريكا التفرد عالميًا بسياسة أحادية القطب بعد أن كانت ثنائية القطب، وهنا بدأت تحاول صياغة العالم, والتحكم به بطريقة عجيبة غريبة حتى إنها وصفت بالكابوي السينمائي، وخصوصًا في ثمانينات القرن الماضي، حيث أخذت تأزُ وتشعل نار الحروب، وتتدخل في كل مناطق العالم، وكان أشهرها تدخلها بالحرب الأفغانية وتسهيل دعم المجاهدين هناك ضد الاتحاد السوفياتي، وظهر ذلك جليا بزيارة زعماء وقادة المجاهدين للبيت الأبيض في واشنطن، وظهور بعض الأسلحة مثل صاروخ ستينغر الأمريكي في سماء أفغانستان، ومثال اقتصادي آخر ظهر جليًا في العمل على تسويق وفرض مقررات منظمة التجارة العالمية الحرة, والتي عُرفت بتحرير الأسواق، وأصبحت المصانع والشركات الكبرى تجوب العالم بسبب تلك القرارات والقوانين الاقتصادية، وقبل ذلك كانت مقررات مؤتمر "بروتون ودوز" التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، والتي بموجبه تم تتويج الدولار عملة عالمية رئيسية وبلا منافس حقيقي، ونكاد نقول: "إنه أخذ موقع الذهب بالنسبة للعالم". وعليه أصبح الذهب سلعة يباع ويشترى, ويرتفع سعره وينخفض حسب السوق، بمثل ما سبق تصبح الدولة الأولى تتحكم بمصير العالم والدول كل حسب قوته والمصالح المشتركة بينهما ومدى الانحناء للعاصفة.

ومع نهاية الألفية الأولى, ودخول الألفية الثانية بدأت نتائج الغطرسة تضرب العالم بأكمله وأمريكا على وجه الخصوص، فكانت أزمة اقتصادية محدودة ضربت ما سمي بدول النمور الآسيوية، ولم تلتفت الدولة الأولى الراعية للعالم لها، على اعتبار أن السوق ينظم وينقذ نفسه، وعندما وصل جحيم الأزمة للأسواق الأمريكية والأوروبية، غابت تلك القاعدة الاقتصادية الذهبية "تنظيم الأسواق لنفسها" وأخذت المؤتمرات الاقتصادية تعقد, وتم توسيع بعضها ليضم دولاً أخرى مثل السعودية فأصبحت دول الثمانية (G8) الاقتصادية إلى دول العشرين المعروفة ب (G20) الاقتصادية، وذلك لحلحلة وتدارس تسونامي الأزمة المالية العالمية حتى قبل وقوعها وانهيار البورصات ومع بداية ظهور أولى ضرباتها، وهنا أخذت الأوضاع الاقتصادية العالمية تنذر بالشؤم العالمي، بأن القادم مخيف ولا مجال لإخفائه، لا بل حتى لا مجال لمعالجته؛ لأن الأزمة أزمة النظام الرأسمالي نفسه، وليست أزمة عابرة ممكن ترقيعها بقوانين معينة يتم تعديلها، أما وقد بان عوار النظام الرأسمالي للمتابعين وأهل السياسة، فلا حلول مرتقبة لا من النظام الاقتصادي ولا من منظريه، وهنا ضرب الزلزال والتسونامي الأمريكي المعروف بالرهن العقاري أولى أمواجه العاتية في خريف 2008م، فأصبحت قرارات العالم الاقتصادية والسياسية خبط عشواء ولا ميزان يضبطها، وأصبح مصير العالم بين يدي تسونامي الأزمة المالية العالمية, والتي كان مركزها أمريكا بقضية الرهن العقاري، وظهرت من خلال انهيار البورصات واحمرار أسهمها بين ليلة وضحاها، فتبخرت الأموال وكأنها تريليونات غازية، لا يعرف أحد أين ذهبت وأنى أُودعت، ولكل مجتهد رأي, سواء بنظرية المؤامرة, أو بفساد الشركات والبنوك والسياسيين, أو بفساد وانهيار المبدأ الرأسمالي نفسه، وحتى هذا اليوم والعالم يعاني من نتائج الأزمة الاقتصادية الأمريكية العالمية.

أما سياسة أمريكا فكانت قراراتها أنانية لحماية دولارها الصنم العالمي الذي جعلته أيقونة عالمية، وخصوصًا بعد ما عرف بخطاب الصدمة للرئيس نيكسون عام 1971م، وأخذ يتبلور صراع خفي بين الدول القوية اقتصاديًا، وخصوصًا الاتحاد الأوروبي والصين واليابان، ولم يرمقه إلا المتابع السياسي والاقتصادي للشأن الدولي والمحلي، وعليه أصبح النظام الدولي يتأرجح كراكب البحر لا يعرف الاستقرار والهدوء، وإن حصل ذلك يترقب عدم الاستقرار لأنه هو الأصل على السواء لراكب البحر ولدول العالم في ظل هذا النظام الدولي العالمي، الذي ضربه تسونامي الأزمة المالية العالمية فأصبح العالم يسير على غير هدى، رغم ضلاله أصلاً حيث يسير بالمبدأ الرأسمالي الباطل والفاسد والجشع، حيث جعل من رأس المال صنمًا يعبد، فأعاد العالم لجاهلية عبادة أصنام رأس المال، وهنا يكمن لغز يعلمه المتابعون والمختصون اقتصاديًا وسياسيًا، وهو أن أمريكا تستعبد العالم اقتصاديا وسياسيا، فهي تطبع دولارات بالتريليونات من الورق الأخضر، وتشتري ما تريد من العالم حتى قتلها صنيعها هذا، فالظلم العالمي التي تمارسه وسرقة دول العالم فقيرها قبل غنيها, وذلك عن طريق الدولار الذي لا يساوي قيمة صبغته الخضراء، جعل مصانعها وشركاتها تغلق أبوابها، وهذا يعني ضعفًا في النمو, وازديادًا في أعداد العاطلين عن العمل، مما يعني زيادة صرف المعونة العمالية، وصعوبة الحياة وازدياد نسبة الجريمة، ولذا رأينا بعد عام 2008م مظاهرات وول ستريت والدافع هو الاقتصاد وظلم النظام الرأسمالي، وهو عينه الذي يحصل في أوروبا, وقد ابتدأ باليونان وإسبانيا وانتهى بفرنسا، وهذا الأمر يتمدد إلى بقية دول العالم سواء الغنية منها أو الفقيرة.

وبناءً على ما تقدم فإن الأمر يستفحل ويتعمق كالسرطان بجسم المريض، لا يحس به صاحبه إلا وقد أخذ يتملك من جسمه ويقتله, وكل المراقبين حوله ينظرون, حتى أصحاب الاختصاص الاقتصادي والسياسي لا حلول عندهم، وقد وقفوا عاجزين عن إيجاد حل ينقذ العالم من التدهور نحو القاع، وانفجار الوضع الاجتماعي عالميًا، وتفشي الأمراض والجوع عالميًا, حتى يخرج جميع الناس إلى الشارع لتحصيل قوت يومهم فلا يجدون إنتاجًا يكفي للناس، وهذا يعني فشل النظام الدولي العالمي, والنظام الرأسمالي الذي يسير على نظمه وقوانينه كل العالم، بقيادة أمريكا ومعها دول أوروبا ودول العالم الصناعي التي صنفت الدول الأولى صناعيًا في العالم، وها هو العالم ينتظر حلاً ولا بريق أمل يلوح في الأفق إلا أن يلفظ الناس النظام الرأسمالي والقائمين عليه لفظ النواة من الفم، ويطمروه في مزابل التاريخ، ويهتدوا إلى نظام يُسَيِّرُ النظام العالمي بهدى ورحمة وعدل.

وحيث إن العالم جرب المبدءَين الاشتراكي والرأسمالي، ولم يجنِ منهما إلا الشوك والشقاء والاستغلال الفاحش والجوع والأمراض واستعباد البشر بثوب الحداثة والمعاصرة والمتاجرة بالمرأة وجسدها، فإن كل ما ذكر آنفًا غيض مختصر من فيض يطول شرحه، فلا مناص من نظام عالمي يحمل عقيدة تحل العقدة الكبرى عند بني الإنسان, ويكون نظامه من جنسه ومتوافقًا معه، فلا مناص إلا أن ننظر بعين الانتظار والترقب للتململ العالمي لتحرك مارد المبدأ الثالث ألا وهو النظام الإسلامي العالمي ونظامه الاقتصادي الرباني، وهو نظام منَزَّلٌ من خالق الكون وعقيدته من جنس نظامه، أي أنه رباني, وليس من وضع وتخرصات وتجارب البشر العاجز والناقص، والذي يأكل ويشرب ويمرض، لذا نجد أن ترقب دولة الخلافة الإسلامية أصبح عالميًا يتم تداوله في الإعلام, ومراكز الدراسات الاستراتيجية ودور الأبحاث، وإلى هذا النظام العالمي الجديد "نظام دولة الخلافة الإسلامية على منهاج النبوة" ندعو المسلمين للعمل الجاد المخلص، وندعو كل البشر كذلك لإنقاذ البشرية مما تعاني من شقاء وعناء حتى أصبح الإنسان يعمل مقابل قوت يومه وكأنه مستعبد لا يملك شيئًا من هذه الحياة التي ازدادت بها نسب الانتحار والأمراض بشقيها النفسي والجسدي، وازدادت الحروب والتقتيل والدمار، فإلى خيري الدنيا والآخرة, ولما يحييكم ندعوكم أيها المسلمون. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّ‌سُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْ‌ءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُ‌ونَ). (الأنفال 24)

كتبه للمكتب الإعلامي لحزب التحرير - ولاية الاردن
الأستاذ وليد نايل حجازات

 

     
29 من رجب 1436
الموافق  2015/05/17م
   
     
 
  الكتب المزيد
 
  • الدولـــة الإسلاميـــة (نسخة محدثة بتاريخ 2014/12/04م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند فتح الملف) الطبعة السابعة (معتمدة) 1423ه... المزيد
  • من مقومات النفسية الإسلامية الطبعـة الأولى 1425هـ - 2004 م   (نسخة محدثة بتاريخ 2014/10/21م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند فتح الم... المزيد
  • النظام الاقتصادي في الإسلام الطبعة السادسة (طبعة معتمدة) 1425 هـ - 2004م   (نسخة محدثة بتاريخ 2014/01/04م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة... المزيد
  • النظام الاجتماعي في الإسلام الطبعة الرابعة 1424هـ - 2003م (معتمدة)   (نسخة محدثة بتاريخ 2013/09/10م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند ف... المزيد
  • نظــــام الإســـلام   الطبعة السادسة (طبعة معتمدة) 1422هـ - 2001م   (نسخة محدثة بتاريخ 2012/11/22م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الص... المزيد