7 من ذي القعدة 1445    الموافق   Apr 26, 2024

بسم الله الرحمن الرحيم




علماء الإسلام ... بين الأمس واليوم

 

إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا هذا الدين الذي أكرمنا الله به، والذي فيه عزنا وسعادتنا في الدنيا والآخرة، وإن صلاح أمر الناس منوط بالأمراء أي بالحكام أولا ثم بهؤلاء العلماء، كما أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام حيث قال: "صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء". ورحم الله عبد الله بن المبارك حيث كان يقول:

يا علماء الديـن يا ملح البلد ..... من يصلح الملح إذا الملح فسد؟

لقد أخذ الله تعالى على هؤلاء العلماء ميثاقا أن يبينوا الحق لجميع الناس، سواء أكانوا حكاما أم محكومين، ونهاهم عن كتمانه عنهم بأي حال من الأحوال مهما كانت الشدائد والمحن والابتلاءات فقال جل من قائل: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه). هذه الآية الكريمة وإن نزلت في معرض الحديث عن بني إسرائيل إلا أنها تشمل علماء الإسلام أيضا، فينطبق عليهم عموم قوله تعالى: (الذين أوتوا الكتاب) أي القرآن الكريم؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. فينبغي أن تظل عيون علماء الإسلام مفتوحة على جهتين أو ناحيتين اثنتين:

أولا: ينبغي أن تظل عيونهم مفتوحة على الحكام، يراقبونهم في إحسان أو إساءة تطبيقهم لأحكام الإسلام، وحسن أو سوء رعايتهم للمسلمين، ينصحونهم ويرشدونهم، ويحاسبونهم أشد أنواع المحاسبة على انحرافهم عن شرع الله، وعلى تقصيرهم في رعاية الأمة حسب أحكام الإسلام.

وثانيا: ينبغي أن تظل عيون هؤلاء العلماء مفتوحة على الأمة في طاعتها لربها بامتثالها لأوامره واجتنابها لنواهيه، يقدمون لها النصح والإرشاد، ويوجهونها الوجهة الصحيحة. فهم في نظرتيهم هاتين كالسيف ذي الحدين الماضيين المشحوذ من جهتين اثنتين: يضرب به صاحبه يمنة فيصيب ويقتل، ويضرب به يسرة فيصيب ويقتل، تماما كسيف علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه الذي كان يسميه بـ "ذي الفقار" لأنه ذو شعبتين.

لقد أدرك علماء الإسلام المخلصون على مر العصور دورهم هذا، فقاموا به خير القيام. وحسبنا في هذا المقام أن نسوق لكم موقفا واحدا مشرفا، من بين المواقف الكثيرة التي وقفها علماؤنا مع الحكام دون أن يخشوا في الله لومة لائم. أدخل على الواثق أحد الخلفاء العباسيين شيخ من الثغر الشامي، حسن الشيبة، ومن أهل الفقه والحديث، أدخل عليه مقيدا، فسلم غير هائب، ودعا فأوجز، فرئي الحياء منه في حماليق عيني الواثق، فقال له أمير المؤمنين: يا شيخ، أجب أحمد بن أبي دؤاد عما يسألك، وأحمد بن أبي دؤاد هذا يتزعم فكرة خلق القرآن، وهذا الشيخ جاء مقيدا؛ لأنه يعارض هذه الفكرة. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، أحمد بن أبي دؤاد يصغر، ويضعف عند المناظرة، فرئي الواثق وقد صار مكان الرحمة غضبا على الشيخ، فقال الواثق: أبو عبد الله يصغر ويضعف عند مناظرتك؟ فقال الشيخ: أيها الأمير هون عليك! أتأذن لي في كلامه؟ فقال الواثق: قد أذنت لك.

أقبل الشيخ على أحمد بن أبي دؤاد فقال: يا أحمد إلام دعوت الناس؟ قال أحمد: إلى القول بخلق القرآن، فقال له الشيخ: مقالتك هذه التي دعوت الناس إليها من القول بخلق القرآن أداخلة في الدين فلا يكون الدين تاما إلا بالقول بها؟ قال: نعم، قال الشيخ: فرسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إليها أم تركهم؟ قال: لا ما دعا الناس إليها. فقال: يعلمها أم لا يعلمها؟ قال: يعلمها، قال: فلم دعوت إلى ما لم يدعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأمسك، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين هذه واحدة.
ثم قال الشيخ: أخبرني يا أحمد، قال الله تعالى في كتابه العزيز: (اليوم أكملت لكم دينكم) فقلت أنت: الدين لا يكون تاما إلا بمقالتك بخلق القرآن، فالله تعالى عز وجل الصادق في تمامه وكماله أم أنت الصادق في نقصانه؟ فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين هذه الثانية.

ثم قال بعد ساعة: أخبرني يا أحمد. الله عز وجل حينما قال: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته). فمقالتك هذه التي دعوت الناس إليها فيما بلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأمة هل بلغها إلى الأمة أم لا؟ فأمسك، قال الشيخ: يا أمير المؤمنين هذه الثالثة.
ثم قال بعد ساعة: خبرني يا أحمد لما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالتك التي دعوت الناس إليها وسعه أن أمسك عنها أم لا؟ قال: بل وسعه ذلك، فقال الشيخ: وكذلك لأبي بكر اتسع ألا يقولها للناس وكذلك لعمر، وكذلك لعثمان، وكذلك لعلي رحمهم الله تعالى؟ قال: نعم، فصرف الشيخ وجهه إلى الواثق، وقال يا أمير المؤمنين: إذا لم يسع لنا ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه فلا وسع الله علينا!!

فقال الواثق: نعم لا وسع الله علينا، إذا لم يتسع لنا ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه فلا وسع الله علينا، ثم قال الواثق: اقطعوا قيوده فلما فكت جاذب عليها - أي أخذها - فقال الواثق: دعوه، ثم قال: يا شيخ لم جاذبت عليها؟ قال: لأني عقدت في نيتي أن أجاذب عليها، فإذا أخذتها أوصيت أن تجعل بين يدي وكفني، ثم أقول: يا رب سل عبدك لم قيدني ظلما وارتاع بي أهلي؟ فبكى الواثق والشيخ وكل من حضر، ثم قال: يا شيخ اجعلني في حل - أي سامحني - فقال: يا أمير المؤمنين ما خرجت من منزلي حتى جعلتك في حل إعظاما لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولقرابتك منه، فتهلل وجه الواثق وسر.
ثم قال الواثق: أقم عندي آنس بك. فقال له: مكاني في الثغر أنفع- وقد كان العلماء مجاهدين- وأنا شيخ كبير ولي حاجة هناك أن ألقى الله في ساحة المعركة. فقال: سل ما بدا لك. قال: يأذن لي أمير المؤمنين في رجوعي إلى الموقع الذي أخرجني منه هذا الظالم. فقال: أذنت لك وأمر له بجائزة فلم يقبلها.

هذا، ولا يخلو زماننا من أمثال هؤلاء العلماء العمالقة الأفذاذ، الذين يقولون كلمة الحق، ولا يخشون في الله لومة لائم، لكنهم امتلأت بهم سجون الحكام الظالمين، وقد ابتلينا في أيامنا هذه بمن يسمون بالعلماء والفقهاء زورا وبهتانا، وما هم بعلماء ولا فقهاء. بل إنهم رؤوس جهال كما وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام، فقد روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا". هؤلاء الذين يسمون بالعلماء بدل أن يقوموا بواجبهم ودورهم المنوط بهم كما بيناه في مستهل حديثنا، فإنهم أخذوا يزينون الباطل للحكام الذين نصبهم الكافر المستعمر على رقاب الأمة، بل ويؤيدونهم في كل قرار يتخذونه حتى لو كان مناقضا لعقيدة الإسلام وأحكام الإسلام، وليتهم سكتوا عن قول كلمة الحق، وقبل الواحد منهم أن يكون شيطانا أخرس لكان الأمر يهون، ولكنهم نطقوا فزينوا للحكام سوء أعمالهم، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا. رحم الله أياما كان فيها علماء الإسلام علماء الإسلام حقا ورحم الله أياما كان فيها حكام المسلمين حكاما للمسلمين حقا

... اللهم رد علماءنا إلى سالف عهدهم واهدهم، واهد بهم واجعلهم دعاة الحق، لا مزينين للباطل واهدنا واهد بنا ونعوذ بك اللهم من الضلال ... آمين.

 

كتبه للمكتب الإعلامي لحزب التحرير - الأردن - الأستاذ محمد أحمد النادي

 

     
24 من رجب 1436
الموافق  2015/05/12م
   
     
 
  الكتب المزيد
 
  • الدولـــة الإسلاميـــة (نسخة محدثة بتاريخ 2014/12/04م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند فتح الملف) الطبعة السابعة (معتمدة) 1423ه... المزيد
  • من مقومات النفسية الإسلامية الطبعـة الأولى 1425هـ - 2004 م   (نسخة محدثة بتاريخ 2014/10/21م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند فتح الم... المزيد
  • النظام الاقتصادي في الإسلام الطبعة السادسة (طبعة معتمدة) 1425 هـ - 2004م   (نسخة محدثة بتاريخ 2014/01/04م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة... المزيد
  • النظام الاجتماعي في الإسلام الطبعة الرابعة 1424هـ - 2003م (معتمدة)   (نسخة محدثة بتاريخ 2013/09/10م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الصفحة عند ف... المزيد
  • نظــــام الإســـلام   الطبعة السادسة (طبعة معتمدة) 1422هـ - 2001م   (نسخة محدثة بتاريخ 2012/11/22م) (للتنقل بين صفحات الكتاب بكل أريحية الرجاء الضغط على أيقونة "Bookmarks" الموجودة في أعلى الجانب الأيسر من الص... المزيد