قررت وزارة الأوقاف في الأردن أن تكون خطبة الجمعة الموحدة لتاريخ 13/12/2019م بعنوان (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)، ولنا وقفات مع هذه الخطبة.

أولاً: إن اللغة العربية جزء جوهري لا يتجزأ من الإسلام، فالله تعالى يقول: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، ولا تحمل الدعوة الإسلامية إلا بها. وقد حرص الصحابة على تعليم أبنائهم اللغة العربية بالإضافة إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ. وحين حمل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم الإسلامَ إلى العالم، حملوه بمرتكزات ثلاث: بكتاب الله وبسنة رسوله، واللغة العربية التي هي اللغة الرسمية للدولة الإسلامية.

ورسول الله ﷺ كتب إلى قيصر وكسرى والمقوقس كتباً يدعوهم فيها إلى الإسلام، وكانت كتبه هذه مكتوبة باللغة العربية مع إمكان ترجمتها للغاتهم. فكونهﷺ لم يكتب لقيصر وكسرى والمقوقس كتبه لهم بلغاتهم، مع أنهم غير عرب ومع أنه كتب يبلغهم الإسلام، دليلٌ على أن اللغة العربية وحدها هي لغة الدولة؛ لأن الرسول ﷺ فعل ذلك، وكون الحاجة ماسة إلى الترجمة للتبليغ ولم يترجم قرينة على وجوب حصر مخاطبة الدولة -كدولة- للناس باللغة العربية سواء أكانوا عرباً أم غير عرب ، وقد بين الإمام الشافعي في رسالته الشهيرة في الأصول: (أن الله تعالى فرض على جميع الأمم تعلم اللسان العربي بالتبع، لمخاطبتهم بالقرآن والتعبد به)، وهذا كلام لا بد أن يفهمه حكام اليوم، الذين يدّعون دفاعهم عن اللغة العربية، ثم تراهم يقفون في المحافل الدولية ناطقين بلغة الدول المستعمرة المهيمنة على العالم، وهذا إن دل فإنما يدل على هوانهم وضعفهم، فأين هم مما فعله رسول الله ﷺ حينما كتب إلى قيصر وكسرى والمقوقس كتباً بلغة الدولة الإسلامية -وهي العربية- ليُظهر العزة التي تتصف بها هذه الدولة.

ثانياً: إنَّ أحَدَ أسباب فَهْم كتاب الله إتْقان اللُّغَة العرَبِيَّة؛ لأنَّه نزل بلِسانٍ عربيّ، فلن تستطيع أن تَفْهَمَ كتاب الله إلا إذا أتْقَنْتَ خصائص هذه اللُّغَة وقواعِدَها وفِقْهها ونَحْوَها وصرْفها وبلاغَتَها. فصحة اللغة عند أهلها واستقامة اللسان بها لازم للفهم السليم، والفكر المستقيم كلزوم صحة الأم لسلامة جنينها وحملها. وإلا نتج الفهم والتفكير المشوه والمنحرف؛ لذلك تجد الهجمة الشرسة من أعداء الأمة والملة على لغة الإعجاز، وتجد التشويه لها لتستعجم على أبنائها فيتشوه فهم نصوص القرآن، وبالتالي فهم نصوص السنة، ويتوقف الاجتهاد، وتنغلق أبوابه فيتخذ الناس من الجهال من ينبري ليتبوأ مركز الفتيا والتعليم ممن يخدم، ويسير في ركب خدمة مكر الأعداء، وكيدهم للأمة بعلم ممن خبثت طويتهم، أو بغير علم ممن استغفلوه فاطمأن لهم، فأضلوه ليصبح ضالاً مضلاً. وقد عبَّر الإمام الشاطبيُّ رحمه الله عن هذا المعنى بقوله: (إن الشريعةَ عربيةٌّ، وإذا كانت عربيَّةً؛ فلا يفهمُها حقَّ الفهمِ، إلا من فهِمَ اللغةَ العربيَّةَ حقَّ الفهمِ؛ فإذا فرضنا مُبتدِئًا في فهم العربية؛ فهو مُبتدِئٌ في فهم الشريعة، أو متوسِّطًا؛ فهو متوسِّطٌ في فهم الشريعة؛ فإن انتهى إلى درجة الغايةِ في العربية كان كذلك في الشريعة)، ولقد أوصى الصحابة والعلماء بتعلّم اللغة العربية، يقول سيدنا عمر رضي الله عنه: "تعلموا العربية فإنها من الدين، ويقول شعبة: "تعلموا العربية فإنها تزيد في العقل"، وقال عبد الملك بن مروان: "أصلحوا ألسنتكم؛ فإن المرء تنوبه النائبة فيستعير الثوب والدابة، ولا يمكنه أن يستعير اللسان، وجمال الرجل فصاحته".

ثالثا: إن العربية لسان ولغة ولا علاقة لها بالقومية أو أي أمر آخر، فمدح اللغة العربية إنما هو بوصفها لغة نزل بها القرآن الكريم، كما قال تعالى: { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}، وكلُّ من تعلم العربية فهو عربيّ بغض النظر عن أصل ولادته، فكثيرون ممن أسهموا في بناء الصرح البديع للغة العربية، ووضعوا قواعده وشيدوا بنيانه، لم يكونوا من العرب، فمِن سيبويه الذي يعد كتابه دستور اللغة، أول وأروع تدوين وتصنيف لقواعدها النحوية، إلى ابن جني الذي وضع نواة فقه اللغة، مروراً بالجرجاني مؤسس علم البلاغة، وصولاً للفيروزآبادي صاحب القاموس المحيط، كان العديد من جهابذة العربية من أصول غير عربية تنوعت بين الفارسية والرومية وصولاً إلى بربر المغرب العربي الذي نبغ فيهم الجزولي صاحب مقدمة النحو الشهيرة.

رابعاً: منذ أواسط القرن الثاني عشر الهجري (الثامن عشر الميلادي) والعالم الإسلامي ينحدر عن المستوى اللائق به انحداراً سريعاً، ويهبط إلى هوة الانحطاط هبوطاً فظيعاً، وإن الناظر في سبب انحطاطه يرى أنه يرجع إلى شيء واحد، وهو الضعف الشديد الذي طرأ على الأذهان في فهم الإسلام. فاللغة إنما هي وعاء الفكر، والله سبحانه وتعالى إنما أراد بالإسلام إخراج العباد من الظلمات إلى النور، بهذه الأفكار التي نزل بها الوحي، سواء العقائد أو الأحكام الشرعية، هذه الأفكار الراقية هي وحدها الكفيلة بإنهاض الأمة الإسلامية والبشرية جمعاء. وقد اختار الله سبحانه اللغة العربية وعاءً لهذا الفكر، لمزايا وخصائص تمتاز بها اللغة العربية على سائر اللغات، وبطريقة معينة مزج بها الإسلام بين الطاقة العربية والطاقة الإسلامية، فما لم تُمزج الطاقة العربية بالطاقة الإسلامية بأن تجعل اللغة العربية ــ التي هي لغة الإسلام ــ جزءاً جوهرياً لا ينفصل عنه فسيبقى الانحطاط يهوي بالمسلمين، لأنّها الطاقة اللغوية التي حملت طاقة الإسلام فامتزجت بها، بحيث لا يمكن أداء الإسلام أداء كاملاً إلاّ بها، ولأن بإهمالها سيبقى الاجتهاد في الشرع مفقوداً، ولا يمكن الاجتهاد في الشرع إلاّ باللغة العربية، لأنّها شرط أساسي فيه. والاجتهاد ضروري للأمّة، لأنّه لا تقدم للأمّة إلاّ بوجود الاجتهاد.

فيا أيها المسلمون...

لا تفرّطوا في اللّغة العربيّة فهي لغة مقدّسة؛ بها نزل دستورنا وقرآننا وبها نفهم أحكام ديننا، ولنعمل مع الصّادقين من أبناء أمّتنا الذين يصلون اللّيل بالنّهار لنصرة دينهم وإعلاء كلمة ربّهم، لإقامة دولة الخلافة على منهاج النبوة والحكم بما أنزل الله، وبهذا - فقط - يعود للغة قرآننا مجدها وعزّها، وبهذا الصّرح المتين، يحفظ الدّين وتحفظ اللّغة ولا يتجرّأ عليهما الأعداء الضعفاء والعملاء السفهاء.

والحمد لله رب العالمين.