بسم الله الرحمن الرحيم




روسيا إلى أين؟ ...الجزء الأول


إن الدارس لتاريخ الشعب الروسي عبر مراحله التاريخية، وتاريخ أنظمته السياسية عبر اختلافها وتقلباتها يقف على جملة من الحقائق لا بد من بيانها؛ لمعرفة طبيعة وتاريخ هذا الشعب، وكيف يُحكم من قبل ساسته، ودور ومكانة روسيا تاريخًا وحاضرًا ومستقبلًا .


ابتداءا يتميز الشعب الروسي بالنشاط والحيوية، وقوة الشكيمة حيث تشكلت هذه الصفات من خلال الحروب العسكرية والظروف البيئية القاسية جدًا من حيث الشتاء والثلوج التي تغطي مساحة من الأرض لفترات طويلة، ثم وعورة الأرض في بعض مناطقها وسعتها، وإحاطتها بالأعداء والقوى المجاورة الطامعة، وكثرة الأطماع على تلك البلاد لذا نشأ هذا الشعب قوي البنية، عنيد المراس، ومحاربًا. ونتيجة لهذه الصفات أُطلِق عليه اسم الدب -وهو شعار يعتز به الروس- لقوته ومهابته. إلا أنه في المقابل نجده قويًا وشجاعًا على أرضه، وفي بيئته فقط، فإذا خرج من بيئته وأرضه فقدَ تلك الصفة، وتلك القوة، وهذه نقطه مهمة جدًا في تاريخ هذا الشعب، فمصدر قوته يعود لأرضه، وتعلّقه بها، وليس مصدر قوته نتيجة إيمانه بفكرة سياسية مثلًا، وعقيدة يريد نشرها - كما هو شأن المسلمين- ولهذه الميزة كان من الطبيعي جدًا أن يفقد الاتحاد السوفييتي وجوده في مناطق تواجده خارج أرضه بعد انحسار قوته، فلم نرَ الروس يدافعون عن تلك البلاد؛ لأنها ليست محل تعلّقه، ولا تربطه بها علاقة، وهذه وإن كانت نقطة قوة من جانب، إلا أنها نقطة ضعف من جانب آخر فهي دفاعية، بل هي نقطة ضعف لأي دولة تريد أن تكون قوة عالمية، فكان من الطبيعي جدًا أن تكون مدة روسيا العالمية قصيرة إبان الفترة الشيوعية (الاشتراكية) لأمور هي:


أولاً: فساد الفكرة الشيوعية: فهي فكرة ساقطة عقلًا حيث لم تقنع العقل، ومناقضة للفطرة البشرية، كما أنها ليست رابطة صحيحة تصلح للبشر، لذلك كان من الطبيعي جدًا أن يعترف الشيوعيون بتعدد القوميات في بلادهم؛ لعدم قدرة الفكرة الشيوعية على جمع الشعوب، وإعادة صياغتها ضمن الفكرة الشيوعية، بخلاف العقيدة الإسلامية التي جمعت الأبيض والأسود، والعربي والرومي والفارسي، وذابت كل القوميات فيها، وجعلت العقيدة رابطة تربط كل من آمن بها قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ).

ولما كانت الفكرة الشيوعية غير قادرة على إعادة وتشكيل الشعوب كان من الطبيعي جدًا أن يكون تعلق الروس بشيء ما غير الفكرة والعقيدة، وغالبا ما يكون التعلق عند البشر بمكان ولادتهم (الأرض)، وهم تعلقوا بالأرض فالتضحية، والقوة والحرب لأجل تلك الأرض فقط. أما البلاد التي خارج أرضهم فما الذي يربطهم بها؟

ولفساد الفكرة، وعدم قدرتها أن تكون رابطة للشعوب والقوميات في روسيا على كثرتها وتعددها هناك اعترف الشيوعيون بتعدد القوميات وكان هذا الاعتراف خنجرًا مسمومًا في جسد الدولة، لذا فقدت الشعوب الدافع الحقيقي للحفاظ على أرض غير أرضه، فكانت قوته على أرضه لارتباطه وتعلقه بها فقط.


ثانيًا: لقد نشأت روسيا دولة عسكرية دكتاتورية استبدادية فلا قيمة لشعبها ولا وزن لهم، بل عاشوا دون أن يكون لهم أي تأثير في صنع القرار السياسي، بل كانوا، وما زالوا جنودًا محلًا للتنفيذ، لا المشاركة في صنع القرار، فقد كان نظام الحكم في روسيا أيام القياصرة والشيوعيين والزمن الحالي دكتاتوريًا استبداديًا وحشيًا في جميع مراحل التقلبات السياسية، وأنظمة الحكم فيها مع تغير في الأسلوب والأشخاص فقط، حيث استطاعت فئة ما أن تفرض نفسها بالقوة عليهم دون إرادتهم، وطبقت عليهم ما تريد بالحديد والنار خاصة الفترة الاشتراكية حيث قام الشيوعيون بقوة الحديد والنار، وليس بقوة الفكرة والإيمان بها، حتى إذا ظهرت ملامح الضعف والسقوط سقطت الدولة ومن قبلها الفكرة وتشرذمت البلاد وانقسمت دولا متعددة، لا بل نشأت الحروب والصراعات بينهم، ودخلت بعض الدول الحديثة في حلف الناتو العدو التقليدي لروسيا وألقي بتماثيل الشيوعيين في الحاويات، وأطلق عليهم اللعنات، ثم جاءهم الآن رجال المخابرات، ومن معه بغير إرادتهم، وبتزوير مفضوح، والكل يعلم حقيقة التزوير في الانتخابات، فعندما يخرج بوتين من الباب نراه يعود من الشباك، فلا زال الأمر كما هو، وإنما المختلف هو الأسلوب والأدوات فقط.


ثالثًا: لقد كان لطبيعة النشأة العسكرية عندهم أن تميزوا بالبساطة، والسذاجة السياسية (الإفلاس السياسي) شعبًا وحكامًا، فلم يخلّد لهم التاريخ الكثير من السياسيين مقارنة بغيرهم من الشعوب حجمًا، وعددًا، وتاريخًا، وكان الروس ينظرون إلى تقدم الأوروبيين نظرة إعجاب وإكبار، ونظرتهم إلى أنفسهم نظرة دونية، ولا زالت هذه عقدة عندهم بسبب تفوق الأوروبيين عليهم .


رابعًا: الضعف الشديد الذي طرأ على الكيان السياسي ومفهوم إعادة البناء أو مصطلح (بيريستوريكا) واحد من المصطلحات التي اشتهرت بها تجربة السوفييت السياسية، وتلازمت مع انهيار الاتحاد السوفييتي في عهد الرئيس ميخائيل جورباتشوف وتعنى الهيكلة أو الإصلاح الاقتصادي، ثم التخلي عن المحطة الفضائية التي كانت تعتبر رمز التفوق الروسي؛ لعدم قدرة روسيا على التمويل ... وغيرها الكثير.
هذه النقاط مهمة جدًا في محاولة قراءة توجهات السياسية الخارجية الروسية، ولأي حاكم لروسيا يتقدم لقيادة السفينة بمعرفة طبيعة الشعب، والتاريخ وأثر تلك الصفات الحقيقة في سياستها وانسجامهم معها.


بالرغم من أن روسيا دولة مستقلة، وغير عميلة، أو تابعة، أو تدور بفلك دولة ما إلا أنها مسكونة بعوامل الضعف السياسي، وضحالة التفكير السياسي بشكل كبير يصل كما ذكرنا حد السذاجة والإفلاس السياسي، وبرغم ما تتمتع به روسيا من إمكانات، وموارد عملاقة تستطيع من خلالها أن تحدث نقلة نوعية إقليمية، وعالمية لو توفر عندهم العقلية السياسية، فمثلًا الإنجليز والألمان والفرنسيون لم تتوفر لديهم الإمكانات التي لروسيا، ومع ذلك أنشئوا دولة، وقوة لوجود العقلية السياسية عندهم، فمن حيث الإمكانات، والموارد في روسيا هي غنية جدًا، ولكن إذا لم تكن هذه الإمكانات بيد عقلية سياسية تجعل منها قوة لها كانت تلك الموارد مدعاة إما للاحتلال من قبل طرف قوي، أو محلًا للاستغلال من قبل من يملك عقلية سياسية قادرة على جني ثمار تلك الموارد بعيدًا عن استثمارها لمصلحة أهلها.


ورد في كتاب مفاهيم سياسية لحزب التحرير: "وقد كانت روسيا قبل الحرب العالمية الأولى متأخرة عن أوروبا، ومستغلة من بعض الدول الأوروبية. فالصناعات الرئيسية في روسيا كانت في أيدي فرنسا، وإنجلترا، وبلجيكا. فكانت أهم مصانع التعدين في أيدي الفرنسيين، وكانت صناعة الفحم في حوض الدونيتز في أيدي الأجانب، وكان ما يقرب من نصف آبار البترول في أيدي الإنجليز والفرنسيين، وكان قسم كبير من أرباح الصناعة الروسية يذهب إلى البنوك الأجنبية، وخاصة البنوك الإنجليزية والفرنسية، فكانت البلاد حتى سنة 1914م متأخرة في نظام الحكم، والاقتصاد، والثقافة، والتعليم، ومع ذلك كانت روسيا دولة كبرى، وتعتبر دوليًا من الدول الكبرى، وكانت تؤثر في السياسة الدولية".


كتبه للمكتب الإعلامي لحزب التحرير - ولاية الأردن

الأستاذ: حسن حمدان

 

     
21 من ذي الحجة 1438
الموافق  2017/09/12م
   
     
http://www.hizb-jordan.org/